في الوقت الذي يبدو فيه أن الاتفاق النووي الإيراني صمد بوجه الجهود التي بُذِلت في الكونغرس من أجل تعطيله، يبرز السؤال الأساسي: ماذا سيكون تأثيره على السياسات الإقليمية الإيرانية؟
خلافاً للانطباع الذي يراود كثراً في واشنطن، على ما يبدو، بأن إيران ستعمد حكماً إلى مضاعفة تدخّلها في النزاعات الإقليمية، يدعو بعض أعضاء النخبة في السياسة الإيرانية إلى الانكفاء من أجل التركيز على إصلاح الاقتصاد الإيراني الذي أنهكته العقوبات، بحسب ناصر هديان، أستاذ العلوم السياسية في جامعة طهران المقرّب من حكومة الرئيس حسن روحاني.
كتب هديان في ورقة جديدة قُدِّمت في المجلس الأطلنطي، وهو مؤسسة بحثية في واشنطن، في 14 أيلول/سبتمبر الجاري، أن معسكراً "مؤيداً للتدخّل بحدّه الأدنى" يعتبر أنه ينبغي على إيران خفض تدخّلها في الدول المجاورة إلى "الحد الأدنى".
لا يُحدّد هديان هوية المنتمين إلى هذا المعسكر، قائلاً لموقع "المونيتور" إن من يتبنّون هذه الآراء لم يختاروا بعد الإدلاء بها في العلن. لكنه أردف أن بينهم "شخصيات أساسية... من المحافظين والمتشدّدين والإصلاحيين والجيش والمؤسسات البحثية والعلمانيين والمتديّنين".
وكتب هديان في التقرير الذي اطّلع عليه موقع "المونيتور" مسبقاً: "يؤكّد أصحاب هذا الرأي أن إيران تتحمّل أصلاً ما يفوق طاقتها بسبب التزاماتها في أفغانستان ولبنان وأماكن أخرى، وأنه لا يقع على عاتقها أن تخوض بنفسها الحرب ضد التنظيم الذي يسمّي نفسه الدولة الإسلامية في العراق والشام". أضاف: "يقولون إن إيران، عبر اضطلاعها بدور بارز في محاربة داعش، جعلت نفسها في شكل أساسي هدفاً لهجمات التنظيم". وقال هديان إنه من الممكن أن هذا المعسكر يعتقد أن "اعتماد مقاربة يقتصر فيها التدخل على الحد الأدنى قد يتيح لإيران التوصّل إلى نوع من التفاهم المتبادل أو الهدنة مع داعش".
تابع هديان أنه في حين لا يزال يسيطر في طهران معسكر "مؤيّد لنشر الاستقرار" يرفع لواء التدخل القوي والمتواصل، ثمة مؤشرات بأن مقاربة التدخل بالحد الأدنى تكتسب زخماً، بما في ذلك تردّد إيران في دفع الحكومة العراقية نحو استعادة السيطرة على المعقل السنّي في الموصل. وفي سوريا، من شأن هذه السياسة أن تحدّ الدعم الإيراني للدفاع عن دمشق ومعاقل العلويين على الساحل المتوسطي. قد تشجّع إيران أيضاً الحوثيين في اليمن على التوصّل إلى اتفاق سلام مع القوى المدعومة من السعودية.
يشمل أعضاء المعسكر المؤيّد لنشر الاستقرار، روحاني، ووزير الخارجية محمد جواد ظريف، وسواهما من المسؤولين الكبار، كما قال هديان لموقع "المونيتور"، مشيراً إلى أنه هو نفسه ينتمي إلى هذه المجموعة.
يُذكَر أن إيران التي ازداد تأثيرها في العراق إلى حد كبير بعدما أطاحت الولايات المتحدة صدام حسين في العام 2003، تدخّلت بحزم الأسبوع الماضي لمنع تنظيم "داعش" من الاستيلاء على مزيد من الأراضي العراقية.
لكن مؤخراً، يبدو أن إيران تخفّف من حضورها في العراق. فقد جرى مؤخراً تهميش محميّها (ومحمي الولايات المتحدة سابقاً)، نوري المالكي، بناءً على إصرار آية الله العظمى علي السيستاني من جملة أسباب أخرى. ولم تعد تُلتقَط صور لقاسم سليماني، قائد "فيلق القدس" أو الذراع الخارجي للحرس الثوري الإيراني، بعدما كان يظهر على ما يبدو في كل ساحات المعارك.
وقد سعى مسؤولون إيرانيون كبار آخرون إلى تهدئة المخاوف بشأن الامتداد الإقليمي بعد الاتفاق النووي.
فقد صرّح علي لاريجاني، رئيس مجلس الشورى الإيراني والعضو البارز في النخبة السياسية، لموقع "المونيتور" في مقابلة معه في الأول من أيلول/سبتمبر الجاري، إن من يقولون إن إيران ستحصل على أموال طائلة جراء تخفيف العقوبات، وسوف تستخدمها لإذكاء النزاعات الإقليمية، يسعون إلى إيجاد "ذرائع أو أعذار" لتبرير معارضتهم للاتفاق النووي. واعتبر أن الأولوية بالنسبة إلى إيران الآن هي التنمية الاقتصادية.
إذا اعتمدت إيران موقفاً أقل نزوعاً نحو التدخّل، فقد يسهّل ذلك على إدارة الرئيس باراك أوباما إقناع داعمي إسرائيل وكذلك الدول العربية في الخليج الفارسي، بالاتفاق النووي. قال بلال صعب، الخبير في شؤون الشرق الأوسط في المجلس الأطلنطي، لموقع "المونيتور" إن ما يعتبره الإيرانيون "عامل استقرار، يرى فيه جيرانهم النقيض تماماً".
يتوقّف سلوك إيران الإقليمي على نظرتها إلى التهديدات فضلاً عن مواردها. كتب هديان في ورقته أن إيران لا تزال ترى في الولايات المتحدة وإسرائيل - وليس السعودية، وهذا لافت جداً - تهديدَين أساسيين. يقول هديان إن الدعم الإيراني لمجموعات مثل "حزب الله" يندرج في إطار استراتيجية تهدف إلى ردع هجومٍ إسرائيلي على إيران. بناءً عليه، من شأن تراجع التهديد الإسرائيلي أن يساهم في الحد من عدوانية "حزب الله".
مع أن هديان يقول إن إيران لا تعتبر أن السعودية تشكّل تهديداً لها، إلا أنها تدخّلت في اليمن التي تشكّل أولوية كبرى بالنسبة إلى السعوديين. يؤكّد المسؤولون الإيرانيون أن المتمرّدين الحوثيين تصرّفوا من تلقاء أنفسهم عند السيطرة على العاصمة اليمنية، صنعاء، لكنهم يُظهرون عدوانية شديدة في تعليقاتهم عن السعودية.
إبان الاتفاق النووي، تحدّث عدد من المسؤولين الأميركيين الكبار والمرشّحين للرئاسة في الولايات المتحدة عن الحاجة إلى التعويض على إسرائيل والدول العربية عن المكاسب الإيرانية المتصوّرة من الاتفاق. من شأن هذه الجهود أن تزيد من استشعار إيران للتهديد، لا سيما من جانب الدولة اليهودية.
مؤخراً حذّر إيلان غولدنبرغ، المسؤول السابق في البنتاغون الذي يدير برنامج الأمن الشرق أوسطي في "مركز الأمن الأميركي الجديد"، من مغبّة قيام الولايات المتحدة - في معرض زيادة تبادل الاستخبارات مع إسرائيل وتوقيع اتفاق جديد معها للتعاون العسكري ممتد على عشر سنوات - بتزويد إسرائيل بقنبلة زنتها 30000 باوند تُعرَف بـ"القنبلة الهائلة الخارقة للذخائر" (Massive Ordnance Penetrator, MOP).
من شأن القنبلة - التي لا تزال قيد التطوير في الولايات المتحدة - أن تلحق ضرراً كبيراً بالمنشآت الإيرانية الواقعة تحت الأرض مثل منشأة فوردو، بيد أن إسرائيل تفتقر إلى الطائرات الضرورية لإلقاء القنبلة، كما أن معاهدة خفض الأسلحة الاستراتيجية (ستارت 2) قد تحول دون تمكُّن الولايات المتحدة من تزويد إسرائيل بها. يقول غولدنبرغ إنه "يمكن أن تُعتبَر هذه الخطوة استفزازية جداً، ولن تكون هذه وجهة نظر إيران وحسب إنما أيضاً شركائنا في مجموعة خمسة زائد واحد الذين قد يتساءلون، لماذا تزيد الولايات المتحدة إلى حد كبير من قدرة إسرائيل على شنّ هجوم أحادي على إيران؟"
قال غولدنبرغ في مقابلة مع موقع "المونيتور"، إنه ينبغي على إدارة أوباما فرض "توازن دقيق ومتأنٍّ. من المهم أن نردع السلوكيات الإيرانية التي نعتبرها غير مقبولة، لكن من المهم أيضاً أن نبقي قنوات التعاون مفتوحة في المسائل ذات الاهتمام المشترك. إذا ضغطنا بقوة، سوف نقطع الطريق على فرص الانخراط".
لقد أدلى المسؤولون الإيرانيون بتصريحات متناقضة حول استعدادهم للعمل مع الولايات المتحدة في مواجهة التهديدات المشتركة. فقد بدا مؤخراً أن المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي يستبعد هذه الإمكانية، لكنه قال في الماضي إن الاتفاق النووي سيشكّل "اختباراً" للنوايا الأميركية.
يعتبر مؤيّدو التدخل الإيراني القوي والمتواصل في بلدان مثل العراق وسوريا، أن إيران هي اللاعبة المحورية في مواجهة تنظيم "داعش" المتشدّد، وأنها تؤدّي دوراً لا يستطيع أي بلد آخر الاضطلاع به. يقول هديان: "تتمتّع الولايات المتحدة بالقدرة والإمكانات، إنما ليس بالإرادة السياسية" لمواجهة تنظيم "داعش".
يقدّم هديان توصيات عدّة لتحسين المناخ الإقليمي إبان الاتفاق النووي وتعزيز الحظوظ التي تتيح لهذا الاتفاق المساهمة في الحد من عدم الاستقرار.
فهو يقترح أن تتخلّى حكومته عن شعار "الموت لأمريكا"، وأن تُحجم الولايات المتحدة أيضاً عن الخطاب العدواني ضد إيران. كما يقترح أن يتوصّل الطرفان إلى اتفاق لتجنُّب الصدامات غير المتعمّدة في الخليج الفارسي، وعند الإمكان، مناقشة سبل التعاون ضد الأعداء المشتركين في أفغانستان والعراق.
ويدعو هديان أيضاً إيران والولايات المتحدة وروسيا وتركيا والسعودية إلى "الانخراط في نقاشات جدّية لوضع عناصر خطة واقعية من أجل احتواء النزاع في سوريا والتوصّل إلى حل له".
على الرغم من أن السعودية صدّت حتى الآن المحاولات التي قامت بها حكومة روحاني من أجل فتح قنوات الحوار معها، يقول هديان إنه ينبغي على إيران والسعودية "بذل جهود حثيثة من أجل تحسين العلاقة بينهما" لأنهما "تكبّدتا وسوف تظلاّن تتكبّدان أثماناً باهظة جراء العداوة والتنافس غير الضروريين".