بيروت - تكثّفت الحركة المسيحيّة في بيروت، كنسيّاً وسياسيّاً، للبحث في أوضاع مسيحيّي المنطقة عموماً، ولكن خصوصاً للسعي إلى مخارج للوضع اللبنانيّ المأزوم، في ظلّ الاستمرار في شغور موقع رئاسة الجمهوريّة، منذ 25 مايو/أيّار من عام 2014. وفي هذا الإطار، وصل إلى بيروت في 29 مايو/أيّار الماضي، موفد فاتيكانيّ، هو الكاردينال دومينيك مامبرتي، على رأس وفد من الكنيسة الكاثوليكيّ.
وعن الزيارة، قال أحد المسؤولين اللبنانيّين الّذين التقاهم الكاردينال مامبرتي، إنّ الرّجل ليس غريباً عن لبنان وقضاياه، فهو كان أمين سرّ العلاقات مع الدول في حاضرة الفاتيكان، وهو الموقع الّذي يعادل منصب وزير خارجيّة الكنيسة الكاثوليكيّة. ولقد استمرّ فيه طيلة الفترة الحرجة من التطوّرات اللبنانيّة، بين عامي 2006 و2014، قبل أن ينتقل إلى موقع آخر يشغله حاليّاً، هو "محافظ المحكمة العليا للتّوقيع الرسوليّ". ولذلك، أشار المسؤول اللبنانيّ الّذي طلب عدم ذكر اسمه، إلى أنّ مامبرتي بدا في زيارته كأنّه يتابع مسألة عالقة بالنّسبة إليه، يعرف تفاصيلها ومتابع لتعقيداتها بالكامل. وإنّ الأهمّ أنّ المسؤول الفاتيكانيّ كشف لمضيفيه أنّه لا يحمل أيّ مبادرة، ولا يطرح أيّ أفكار، لا حول الوضع المسيحيّ في المنطقة، ولا حول الأزمة الرئاسيّة في لبنان. وأوضح مامبرتي لكلّ من التقاه، أنّه في مهمّة جمع المعلومات والمعطيات وآراء الأطراف السياسيّين، وخصوصاً المسيحيّين منهم، حول أسئلة محدّدة، أبرزها: كيف تقوّمون الوضع الرّاهن في لبنان وسوريا؟ وما هي أبرز المخاطر الّتي تواجه المسيحيّين في لبنان ومحيطه؟ كما يحمل الموفد الفاتيكانيّ أسئلة حول ظاهرة الإرهاب، من نوع الاستفسار حول من يدعمها، ومن يمولها، ومن يؤيّدها على مستوى الجماعات والبيئات المختلفة. كما أفرد الكاردينال مامبرتي حيّزاً خاصّاً للسؤال عن سوريا، مستطلعاً آراء اللبنانيّين حول مصير الصراع في تلك الدولة، بعد أكثر من أربعة أعوام على اندلاعها، وإلى أين يمكن لهذا النزاع أن يؤدّي. وفي صلب أسئلته، ظلّ محور بحثه هو نفسه: أيّ مصير ينتظر المسيحيّين في سوريا، في ظلّ التطوّرات المختلفة؟.
ولكن الموضوع الأهمّ الّذي ظلّ على أجندة الموفد البابويّ، هو السؤال عن لبنان ودولته ونظامه وجمهوريّته وأوضاع المسيحيّين فيه. وفي هذا السّياق، كشف المسؤول السياسيّ الّذي التقى مامبرتي، أنّ الخطوة الأهمّ في زيارة الأخير، تمثّلت في التّنسيق مع البطريركيّة المارونيّة، من أجل البحث عن آليّة ما تسمح بالخروج من الشغور الرئاسيّ الرّاهن، إنّما بشكل يؤمّن في الوقت نفسه، المطالبة المسيحيّة باختيار رئيس للجمهوريّة، يكون ممثّلاً حقيقيّاً للجماعة المسيحيّة في لبنان. وصودف أن تزامن وجود مامبرتي في لبنان مع تطوّرات مسيحيّة لافتة في هذا المجال، أوّلها اللّقاء الّذي عقد الثلثاء في 2 يونيو/حزيران، بين زعيمي أكبر كتلتين مسيحيّتين في لبنان الجنرال ميشال عون ورئيس حزب "القوّات اللبنانيّة" سمير جعجع، علماً أنّ الرّجلين كانا قد خاضا حروباً عنيفة في ما بينهما، منذ عام 1990، وظلاّ على خلاف سياسيّ وانتخابيّ حتّى اللّحظة. أمّا اللّقاء فعقد في منزل عو، إذ زاره جعجع، ليعلنا معاً بياناً مشتركاً، باسم "إعلان النيّات" بين الطرفين. وقد تضمّن تمسّكهما بانتخاب "رئيس قويّ في بيئته"، أيّ بين المسيحيّين. علماً، كما كشف السياسيّ نفسه، أنّ الموفد البابويّ والقاصد الرسوليّ في بيروت، والبطريرك المارونيّ الكاردينال مار بشارة بطرس الرّاعي، كانوا قد اطّلعوا مسبقاً على البيان، وأعطوا بركتهم لإعلانه وشجّعوا طرفيه على المضي في مقتضياته. وفي السّياق نفسه، أكّد السياسيّ نفسه لموقعنا، أنّ تفاهماً بدأ يتبلور بين الكتلتين المسيحيتين، كما بين البطريركيّة المارونيّة والفاتيكان أيضاً، من أجل إيجاد آليّة ما لاستطلاع آراء المسيحيّين في لبنان، حول من هو المرشّح الأوّل لديهم لرئاسة الجمهوريّة، أو من هما المرشّحان الأوّلان اللّذان يحوزان على أعلى نسبة تأييد لدى مسيحيّي لبنان، بحيث يكون هذا الاستطلاع دقيقاً وموثوقاً ومعترفاً به من كلّ القوى المسيحيّة، على أن يلي ذلك تعهّد مسيحيّ ولبنانيّ كامل باعتماد هذا المرشّح كمرشّح تزكية لرئاسة الجمهوريّة أو اعتماد المرشّحين الأوّلين، ليتنافسا حصراً على انتخابات الرئاسة، في البرلمان اللبنانيّ، ذلك أنّ غالبيّة مسيحيّة واضحة، كما أشار السياسيّ نفسه، ترفض الاحتكام إلى اختيار البرلمان الحاليّ للرّئيس المارونيّ، من دون أيّ ضوابط لهذا الاختيار، لأنّ هذا البرلمان منتخب في عام 2009 وفق قانون انتخاب لا يؤمّن صحّة تمثيل المسيحيّين، ويسمح بانتخاب نحو ثلث النوّاب المسيحيّين بأصوات المسلمين. فضلاً عن أنّ هذا البرلمان نفسه، قال السياسيّ أيضاً، لم يكن معدّاً لانتخاب الرّئيس الجديد للجمهوريّة كون ولايته انتهت قانونيّاً في يونيو/حزيران من عام 2013، أيّ قبل الإنتخابات الرئاسيّة بنحو سنة، غير أنّ تعطيل الإنتخابات النيابيّة وتمديد النوّاب لولايتهم مرّتين متتاليتين ولمدّة أربع سنوات إضافيّة، خلافاً لأيّ منطق ديموقراطيّ، جعلا هذا المجلس المشكوك في شرعيّته، لا يزال قائماً عند نهاية ولاية رئيس الجمهوريّة في 25 مايو/أيّار من عام 2014.
لذلك، كشف المسؤول نفسه، أنّ الحركة المسيحيّة، كنسيّاً وسياسيّاً، بدأت تبحث عن حلّ للخروج من هذا المأزق، والصيغة الّتي باتت مطروحة لجهة استطلاع المسيحيّين والتزام الجميع نتائج استطلاعهم، بدأت تشقّ طريقها في ظلّ انسداد أفق كلّ المحاولات الأخرى.