كيف يحوّل الانسان الألم والظلم إلى أمل بينما يواجه كلّ جمال العالم وبشاعته؟ كيف تصبح امرأة حسناء مواطنة عالميّة ناشطة وتعطي دروساً في الانسانيّة بعد فقدانها ثلث جسمها؟ يتطلّب ذلك لطفاً حناناً متأصّلاً وعطاء وقوّة إرادة وشجاعة وخصوصاً حبّاً للحياة.
كانت شفق بافي، العضو في البرلمان التركيّ، طالبة فنون وسينما في سويسرا في التاسعة عشر من العمر عمدما فقدت ساقها وذراعها في حادث قطار بينما كانت ترافق صديقة لها مصابة بورم في الدماغ إلى المحطّة لتوديعها.
وتقول بافي لـ "المونيتور": "كنتُ أساعد ميرا على الصعود إلى القطار عندما شعرتُ بأنّ القطار بدأ يتحرّك والأبواب لا تزال مفتوحة. كانت إحدانا ستقع لا محالة. أتذكّر أنّني دفعتها إلى الداخل و... وقعتُ. في الأفلام، يقع الناس تحت القطارات ثمّ ينهضون ويكملون حياتهم وكأنّ شيئاً لم يكن. ليس هذا ما حصل معي. فحياتي تغيّرت بالكامل".
بعد هذا الحادث الذي وقع في زيوريخ في 24 أيار/مايو 1996، خضعت بافي لعلاج طويل. وبفضل قوّة الإرادة الاستثنائيّة التي أظهرتها في تلك الفترة، أصبحت موضوع أطروحة أكاديميّة في مستشفى زيوريخ الجامعيّ. ونُشرت هذه الأطروحة لاحقاً على شكل كتاب.
لم يستطع زوج بافي تحمّل الصدمة، فاختار الانفصال. تحافظ بافي على وقورها وصراحتها عند استذكارتها تلك اللحظات، وتقول: "عانيتُ بالطبع. لكن معاناتي لم تكن كبيرة مقارنة بما عانيته طوال حياتي. عندما يقرّ أحد بضعفه ويقول لي إنّه عاجز عن التحمّل، أحترم ذلك".
معاناة بافي جعلتها أقوى. فبدلاً من الاستسلام، قرّرت التمسّك بالحياة أكثر. درست العلاقات الدوليّة في جامعة وستمنستر في بريطانيا ثمّ نالت شهادة عليا من كليّة لندن للاقتصاد. وقد نال بحثها حول حقوق الملكيّة الخاصّة بالجماعات غير المسلمة في البلدان الإسلاميّة أصداء جيّدة.
وسرعان ما مارست بافي أنشطة دوليّة. فعملت مع شيرين عبادي، المحامية الإيرانيّة التي فازت جائزة نوبل للسلام سنة 2003، مساعدةً إيّاها في مطبوعات حول حقوق اللاجئين في إيران.
ثمّ عملت في المفوضية السامية للأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين. ولم تمنعها إعاقتها من القيام بأعمال بالكاد يستطيع الكثير من الأشخاص العاديّين التأقلم معها. ومن 2003 إلى 2010، عملت كموظّفة للشؤون الانسانيّة في المفوضية السامية لشؤون اللاجئين في الجزائر ومصر واليمن ولبنان وسوريا والعراق، وكمتحدّثة رسميّة باسم المفوضية في إيران وأفغانستان. وفي بغداد، تطوّعت لوظيفة تطلّبت منها ارتداء سترة فولاذيّة وزنها 30 كيلوغراماً وخوذة، بالإضافة إلى الأطراف الاصطناعيّة الثقيلة التي يحملها جسمها.
وتقول بافي لـ "المونيتور" عن ذكرياتها في المناطق المضطربة: "عندما كنتُ في بعثة لنزع الألغام في لبنان، رأيتُ الناس يركضون إلى الأرض بعد نزع الألغام منها ويعانقون أشجارهم. لن أنسى أبداً الرجل العجوز الذي عانق شجرة وقال لها وهو يجهش بالبكاء: اشتقتُ إليك".
وتضيف: "في أفغانستان، أثناء رحلة إلى منطقة حدوديّة، نسيتُ أن آخذ معي جهاز شحن ساقي الاصطناعيّة. فاستعمل الشبّان "تكنولوجيا صفيح" وراديو ليصنعوا لي جهاز شحن، وكانت تلك تجربة استثنائيّة بالفعل. سخرنا من أنفسنا ومن عبقريّتنا وضحكنا كثيراً. إنّها ذكرى فريدة بالنسبة إليّ".
سنة 2011، صنّفت منظّمة "الغرفة الفتيّة الدوليّة" (JCI) بافي من بين الشبّان العشرة الأكثر تميّزاً في العالم.
وتحوّلت بافي من مجرّد ضحيّة حادث قطار إلى مواطنة عالميّة فاعلة ومعترف بها دوليّاً. وقد لفتت أعمالها الانتباه في تركيا أيضاً. وفي العام 2011، بينما كانت تشغل منصباً رفيعاً في المفوضية السامية للأمم المتّحدة لشؤون اللاجئين، عرض عليها حزب الشعب الجمهوريّ التركيّ المعارض الانضمام إلى صفوفه والترشّح للانتخابات العامّة. وفي سنّ السادسة والثلاثين، أصبحت عضواً في البرلمان، وسرعان ما شغلت منصب نائب رئيس حزب الشعب الجمهوريّ.
وركّزت بافي في وطنها على انتهاكات حقوق المجموعات المختلفة – المعوّقين والأقليّات والأطفال والنساء ضحايا العنف واللاجئين وضحايا التعذيب – وسعت إلى رفع الوعي حول المحن التي يعانون منها.
وتعرّضت بافي، في بداية مسيرتها السياسيّة في تركيا، لهجوم قاسٍ. فقال أحد كتّاب العواميد بعد خطاب ألقته حول قوانين اللباس في البرلمان: "إنّها معوّقة وأيضاً عضو في حزب الشعب الجمهوريّ". وكانت القواعد البرلمانيّة في تلك الفترة تمنع المرأة من ارتداء السروال في الجمعيّة العامّة، ما أثار نقاشاً حول ساق بافي الاصطناعيّة.
وقالت بافي في خطاب موجّه إلى المشرّعين: "أتحدّث كشخص اضطرّ إلى تغطية رأسه لسنوات، في مناطق لا يمكن أن تزوروها حتّى كسيّاح، في أفغانستان واليمن وإيران. أتحدّث كنائبة أنثى يمنعها نائب ذكر من ارتداء السروال في البرلمان. أتحدّث كشخص تحوّلت ساقه غير الموجودة إلى موضوع حديث سياسيّ بين الرجال".
وبعد سنة ونصف السنة، رفعت المشرّعات النساء الحظر على السروال في البرلمان، بالإضافة إلى الحظر على الحجاب. فأقفلت بافي، التي كانت حتّى ذلك الوقت ترتدي تنّورة، الموضوع، قائلة: "من الغريب أنّ تنّورتي وساقي [الاصطناعيّة] أثارتا الكثير من الكلام. إنّ الأماكن الوحيدة التي أغطّي فيها ساقي هي مناطق الحروب التي لا يستطيع الناس فيها الحصول على أطراف اصطناعيّة".
ونالت بافي اعترافاً دوليّاً بفضل المهامّ التي تطوّعت لها بجرأة على الرغم من إعاقتها. ففي 8 آذار/مارس 2012، في اليوم الدوليّ للمرأة، نالت الجائزة الدوليّة للمرأة الشجاعة من وزارة الخارجيّة الأميركيّة لعملها مع المعوّقين والشعوب الضعيفة والنساء والأطفال والأقليّات في كلّ أنحاء العالم.
سألتُ بافي عن شعورها في الحفل عند تسلّمها الجائزة من وزيرة الخارجيّة السابقة هيلاري كلينتون والسيّدة الأولى ميشيل أوباما، فأجابت: "شعرتُ بحرج كبير وكأنّني آخذ شيئاً ليس ملكي. في تقاليد عائلتي، لسنا معتادين أن نكون تحت الأضواء وننال جوائز على الأعمال [الحسنة]. لكنّك تشعر بفخر غريب عندما تدرك فجأة أنّ الأمور الصغيرة التي فعلتها في حياتك تراكمت وأنّ الآخرين لاحظوا جهودك".
في الحفل، أشادت كلينتون ببافي باعتبارها "بطلة محليّة وعالميّة فاعلة لحقوق المرأة واللاجئين والمعوّقين والكثيرين غيرهم". وشدّدت على أنّ بافي هي المرأة المعوّقة الأولى التي تدخل البرلمان التركيّ، وسلّطت الضوء على عملها الدوليّ بالنيابة عن اتّفاقية الأمم المتّحدة حول حقوق الأشخاص ذوي الإعاقة.
وتقول بافي إنّ أحد العوامل الرئيسيّة التي ساهمت في مثابرتها هو قدرة والدتها، الصحافيّة التركيّة البارزة عايشه أونال، وشقيقها محمد على "تحويل مأساة إلى كوميديا".
وتستذكر المشهد الآتي في غرفة المستشفى في زيوريخ عند وصول عائلتها بعد الحادث: "عندما دخلوا الغرفة، لاحظتُ أنّ أمّي كانت ترتدي حذائي الأحمر المفضّل. مقاسنا هو نفسه ولم أنجح يوماً في إبعادها عن أحذيتي. اعتقدتُ أنّها فعلت ذلك عمداً هذه المرّة لتقول لي إنّه لم يحصل شيء استثنائيّ. أدهشت كلماتها الأولى الأطبّاء، لكنّها لم تدهشني أنا. فقد أشارت إلى أذني البارزة وقالت: "بما أنّك تخضعين لكلّ تلك العمليّات، لماذا لم تُجرِ عمليّة لأذنك مجاناً؟" عندما أجبتُ بابتسامة، قال شقيقي: "بفضل الحادث الذي تعرّضتِ له، بات المعلّم يعاملني جيّداً". أعتقد أنّ الأكاذيب البيضاء هي أفضل مسكّن للألم. كنتُ ضائعة، أتخبّط بين النزول إلى القعر والطفو على السطح. لكنّ انتهازيّة [عائلتي] تجاه الحادث بدّد شعوري بالعجز".
النزول إلى القعر ثمّ الصعود إلى القمّة – قد يكون هذا التعبير أفضل ما يصف كيف ولدت بافي من جديد وأصبحت أملاً للأشخاص المعوزين والمحبطين. فقد نجت من الموت واحتضنت الحياة بحماس أكبر وأصبحت مصدر وحي لكثيرين. هل يمكن أن تكون هذه إشارة على أنّها ولدت لإنجاز مهمّة؟
تقول بافي: "لطالما اعتقدتُ أنّ ما يجعل الناس مختلفين هو الطريقة التي تعلّموا بها النظر إلى القيم البشريّة. لقد تربّيت في كنف عائلة تحترم حارس البناية قبل احترامها لربّ العمل. وعلّمتني عائلتي أنّه من المعيب أن يروّج المرء للجهود التي يبذلها من أجل الأشخاص المحتاجين. إذا كانت هذه مهمّة، فلديّ مهمّة تقضي بالمطالبة بالحريّة والمساواة من أجل الذين يطالبون بهما أقلّ من غيرهم والذين لم يدركوا بعد أنّهما من القيم الأساسيّة".
في تركيا، تتغيّر القوانين كثيراً. وتتجّه البلاد إلى نظام أكثر قمعاً بدلاً من ديمقراطيّة أكبر. وتقول بافي حول حماية الحقوق المكتسبة: "من الصعب جداً أن يستعيد المرء حقوقه بعد أن يكون قد خسرها. تُكتسب الحقوق الاجتماعيّة بعد نضالات طويلة تمتدّ على قرون وتستتبع ثمناً باهضاً. والتقاليد مرنة جداً إلى درجة أنّ هذه الحقوق لا تترسّخ سوى خطوة خطوة. وعندما تقضي على هذه الحقوق، يتحوّل المجتمع بسرعة مذهلة ويعود إلى القالب القديم الذي يُفرض عليه. رأيتُ ذلك في بلدان مثل أفغانستان وإيران اللتين شهدتا حقبات حديثة في الماضي، وإن كانت قصيرة. تتصرّف هذه البلدان وكأنّها لم تمرّ يوماً بحقبات مماثلة، وكأنّ ذلك الإرث لم يترك أيّ أثر في الشوارع والبيوت. على سبيل المثال، شعرت صديقة لي إيرانيّة الجنسيّة بارتباك شديد في أحد الأيّام عندما طيّر الهواء شعرها [خارج الحجاب]. فظهور شعرها وتطايره في الهواء انتهاك فظيع في نظرها. لم تستطع أن تعتبر ذلك وضعاً طبيعيّاً".
وما هو حلم بافي الأكبر؟ "إصلاح نظامنا التعليميّ بنماذج إيجابيّة مثبتة كي تكون أجيالنا الجديدة أجيالاً شابّة محترفة ومفعمة بالحيويّة والنشاط".