في 28 شباط/فبراير الماضي، تُوِّجت المحادثات المستمرة منذ وقت طويل بين أنقرة والمندوبين الأكراد بدعوةٍ وجّهها الزعيم الكردي السجين عبدالله أوجلان إلى "حزب العمال الكردستاني" لإلقاء السلاح. يبرز اسم امرأة كردية بين مهندسي المفاوضات: برفين بولدان. وبولدان التي تشغل الآن مقعداً عن "حزب الشعب الديمقراطي" الموالي للأكراد في البرلمان بدأت حياتها ربة منزل متواضعة قبل عقدَين. وقد دفعها مقتل زوجها بطريقة مروّعة في العام 1994 إلى خوض غمار السياسة.
ولدت بولدان ونشأت في هكاري، الواقعة في جنوب شرق تركيا عند الحدود مع إيران والعراق. بعد إتمام المرحلة الثانوية، تزوّجت ابن عمها سافاس بولدان وانتقلا للإقامة في اسطنبول. في العام 1991، أنجبت ابنهما البكر نيجيرفان. كان زوجها رجل أعمال.
كانت بولدان تعيش حياة عادية وبسيطة في تلك الأعوام، لكن الساحة السياسية في تركيا كانت شديدة الاضطراب فيما كانت الدولة تسعى إلى التوصل إلى حل للمشكلة الكردية عن طريق استخدام القوة. وقد أسفرت هذه السياسة عن إنشاء "وحدة استخبارات الدرك ومكافحة الإرهاب" بطريقة غير قانونية ضمن سلاح الدرك، وتشكيل مجموعة مارقة مماثلة في الشرطة، وكانت تتألف في شكل أساسي من ضباط من القوات الخاصة. مع شروع هذه الهيكليات المسمّاة "الدولة العميقة" في العمل، بلغ النزاع الكردي ذروته في التسعينيات عندما أُفرِغت القرى الكردية من سكّانها وأُحرِقَت، وكانت الإعدامات خارج نطاق القانون تتم بصورة شبه يومية.
وقد نالت عائلة بولدان التي كانت منخرطة عن كثب في السياسة الكردية، نصيبها من الاضطرابات والمعاناة أيضاً. واتّخذت تهديدات القتل التي كان سافاس بولدان يتلقّاها من حين لآخر، منحى أكثر دراماتيكية في الرابع من تشرين الثاني/نوفمبر 1993، عندما قال رئيس الوزراء آنذاك تانسو تشيلر للمراسلين: "نعرف من هم رجال الأعمال الأكراد الذين يساعدون حزب العمال الكردستاني. وسوف نحاسبهم". بعد بضعة أشهر، قُتِل رجل الأعمال الكردي بهجت جنتورك. وسرعان ما لقي يوسف إيكينجي وناميك أردوغان المصير نفسه.
في الثالث من حزيران/يونيو 1994، خُطِف سافاس بولدان على أيدي رجال عرّفوا عن أنفسهم بأنهم من الشرطة. وقد دخلت برفين التي كانت حاملاً في الشهر الثامن، في مخاض مبكر تحت تأثير الخبر. وفيما كانت تلد ابنتها زيلال، وُجِد سافاس ميتاً في بولو، على مقربة من اسطنبول. وقد ظهرت على جثته آثار تعذيب مع رصاصة واحدة في العنق. أخفى الأقرباء النبأ عن برفين طيلة ثلاثة أيام، أثناء وجودها في المستشفى، وكانوا يقولون لها إن سافاس سيزورها قريباً، في حين كان يوارى الثرى.
نُفِّذ مزيد من الإعدامات خارج نطاق القانون، وكانت كلها تحمل بصمات "الدولة العميقة". وقد وضعت الاعترافات والشهادات في السنوات اللاحقة، رجلاً واحداً تحت الضوء: محمد أغار، رئيس الشرطة في تركيا الذي كان أيضاً جاراً لعائلة بولدان في ذلك الوقت. وقد غادر أغار المبنى بعد مقتل جارٍ آخر هو رجل الأعمال عمر لطفي توبال.
كانت برفين لا تزال في السابعة والعشرين من عمرها عندما ترمّلت. وقد ولّدت المعاناة لديها عزيمةً قوية يُحرّكها شعورٌ بالغضب، وبعد عام فقط، وجدت نفسها تتظاهر في الشارع مع "أمهات السبت" اللواتي كنّ - وما زلن - ينظّمن اعتصامات كل يوم سبت في وسط اسطنبول احتجاجاً على اختفاء أحبائهن. شاركت بولدان في الاحتجاجات طيلة أربع سنوات، لكنها شعرت بأن نداءاتهن لا تلقى آذاناً صاغية.
كان النزاع الكردي قد أحدث تغييراً في حياة آلاف النساء الكرديات - فقد رأت بعضهن قراهن تحترق، فيما فقدت أخريات أبناء وأزواجاً في إعدامات خارج نطاق القانون أو رأينهم يُقتادون إلى السجن. بغية مساعدة أولئك النساء، أسّست بولدان جمعية لدعم الأسر التي خسرت أحباء. أخيراً، قررت خوض غمار السياسة كي ترفع صوتها أكثر. وقد فشلت في الفوز بمقعد نيابي في العام 1999، ومن ثم في العام 2002، لأن حزبها لم يتمكّن من عبور عتبة الأصوات المطلوبة في الانتخابات الوطنية. وفي العام 2005، كانت بين ألف امرأة جرى ترشيحهن للفوز بجائزة نوبل للسلام في سياق مبادرة دولية. ترشّحت من جديد في الانتخابات البرلمانية في العام 2007، كمستقلّة هذه المرة، فأصبحت أول امرأة من محافظة أغدير الشرقية تفوز بمقعد في البرلمان.
على امتداد تلك السنوات، تابعت بولدان قضية مقتل زوجها، ورفعت الكثير من العرائض، لكن القضية لم تتحرّك قيد أنملة. وكانت قد بدأت تفقد الأمل عندما فجّر أيهان جاركين، العضو السابق في القوات الخاصة في الشرطة، قنبلة من العيار الثقيل خلال مقابلة تلفزيونية في العام 2008، مدّعياً أنه ربما قتل ألف شخص بالنيابة عن "الدولة العميقة". لاحقاً، اعترف بارتكاب 19 جريمة قتل، بينها قتل سافاس بولدان، قائلاً إنه تصرّف بالاشتراك مع "وحدة استخبارات الدرك ومكافحة الإرهاب" في تنفيذ إعدامات خارج نطاق القانون في الجنوب الشرقي واسطنبول.
وقادت هذه الاعترافات إلى صدور قرار اتهامي تبيّن أن المشتبه به الأول فيه هو جار بولدان السابق، أغار. ذهبت برفين إلى جلسة المحاكمة الأولى في أنقرة، أملاً في أن تحدّق إلى أغار في عينَيه. بيد أن هذا الأخير لم يحضر إلى المحكمة. وكان أيضاً بين المدّعى عليهم الذين وقفوا في قفص الاتهام كوركوت إكين، الضابط المتقاعد من القوات الخاصة في الجيش، الذي كانت برفين تحمّله مسؤولية مقتل زوجها وحاولت مقاضاته مرات كثيرة من قبل. وقد صرخت بولدان لدى وقوفها وجهاً لوجه أمام المتهمين: "أنتم قتلة، كلّكم! أنتم لستم بشراً!" فردّوا بتوجيه الإهانات إليها.
أثارت القضية قدراً كبيراً من التفاؤل في البداية، لكنها عادت فدخلت مرحلة من الركود، مع الإفراج عن جميع المدّعى عليهم بانتظار المحاكمة. وكذلك تملّك بولدان شعور بالتشاؤم. وبعدما خسرت ثقتها بالقضاء، اعتبرت أنه بإمكان تركيا أن تشكّل لجنةَ شبيهة بـ"لجنة الحقيقة والمصالحة" التي أنشئت بقيادة مانديلا في جنوب فريقيا خلال مرحلة الانتقال من الفصل العنصري (الأبارتايد). وقد شدّدت بولدان، في حديث مع "المونيتور"، على أنه يتعيّن على مجلس النواب أن يأخذ على عاتقه كشف الحقيقة في جرائم القتل.
تقول: "جرائم القتل التي لم يُكشَف النقاب عنها بعد هي جزء من المشكلة الكردية. ... ليس فقط مقتل سافان بولدان إنما كل الإعدامات خارج نطاق القانون، يجب كشف هوية مرتكبيها ومحاكمتهم واستجوابهم. لقي عدد كبير من الأشخاص مصرعهم في الإعدامات خارج نطاق القانون والمجازر وتحت تأثير التعذيب. لا تزال لدينا، نحن أقرباء الضحايا، بارقة أمل بأنه ستتم محاكمة القتلة ومعاقبتهم".
تضيف بولدان: "البرلمان هو مركز أساسي لحل المشكلات، إنه هيئة مهمة لصنع القرارات من أجل حل مثل هذه المشكلات. يجب إنشاء لجنة لمعرفة الحقيقة. قد تكون هذه الخطوة السبيل الأنسب لكشف الملابسات في جميع الجرائم. أعتقد أن البرلمان قادر على تحمّل المسؤولية في هذا الملف".
بولدان التي أعيد انتخابها في البرلمان في العام 2012، جزء من فريق من المشترعين الذين تجري الحكومة مباحثات معهم في محاولة لتسوية المسألة الكردية. وفي إطار هذه الآلية، يعقد الفريق لقاءات شبه أسبوعية مع أوجلان في سجن جزيرة إمرالي حيث يمضي زعيم "حزب العمال الكردستاني" عقوبة بالسجن المؤبّد. تتطلع بولدان إلى وضع حد لحمام الدماء وتعتبر أن عملية التسوية أساسية للغاية.
وقد علّقت في هذا الإطار: "لقي آلاف الأشخاص مصرعهم طوال أربعة عقود من النزاع. وكان لكل منا نصيبه من المعاناة، لقد دفع كل واحد منا ثمناً ما. والآن مع دخول أوجلان على الخط، جرى إطلاق مشروع قد يحدث تغييراً جذرياً في المعادلة ليس في تركيا وحسب، إنما في الشرق الأوسط بكامله، وقد يؤدّي إلى إرساء السلام في الشرق الأوسط أيضاً".
تابعت: "لقد قمنا بواجبنا في إطار عملية السلام هذه... أصغينا إلى النداءات واتخذنا الخطوات اللازمة. لكن الحكومة لم تبدِ الالتزام نفسه. يجب اتخاذ خطوات ملموسة. إذا اتخذت الحكومة خطوات فعلية، أعتقد أن العملية ستخرج وأخيراً من [مناخ] المواجهة وتتحول إلى عملية سلام فعلية".
أضافت: "لا يريد أحد مزيداً من إهراق الدماء والمعاناة. لا يريد الناس أن يدفنوا أبناءهم وأزواجهم. بل يريدون العيش في منطقة حرة بكل معنى الكلمة؛ يريدون أن يتمتعوا بالحرية والمساواة على المستويَين السياسي والاجتماعي. وسوف نبذل قصارى جهدنا لتحقيق ذلك".