ليس تفصيلاً خبر زيارة وفد نيابيّ وسياسيّ فرنسيّ لدمشق هذه الأيّام، فكلّ التّفاصيل والوقائع تشير إلى أنّ الخطوة لافتة، ولها أكثر من دلالة. فبين كلام الموفد الأمميّ ستيفان دي ميستورا، قبل أسبوعين، عن أنّ بشار الأسد جزء من الحلّ في سوريا، وبين عودته إلى العاصمة السوريّة الخميس في 26 شباط، عبر أربعة برلمانيّين فرنسيّين ومسؤولين باريسيّين آخرين في 24 شباط ، عن طريق بيروت - دمشق، في زيارة هي الأولى منذ إقفال السفارة الفرنسية في دمشق في العام 2012 لمسؤول رسميّ فرنسيّ لسوريا منذ ثلاثة أعوام على الأقلّ، زيارة قيل فيها الكثير، وحفلت بلقاءات بارزة، وأعقبها كلام لا يقلّ أهميّة.
وفي معلومات خاصّة لموقعنا من مصدر دبلوماسي سوري، إنّ مشروع الزيارة ولد تدريجيّاً على هامش زيارة قام بها وفد كنسيّ من بلدة معلولا السوريّة لفرنسا قبل نحو ثلاثة أسابيع. وبعيداً عن أيّ إعلام، استضافت منظّمة فرنسيّة غير حكوميّة، هي SOS Chretien، مجموعة من السوريّين المسيحيّين من كهنة وعلمانيّين، جاؤوا إلى باريس في محاولة لجمع تبرّعات من أجل المساهمة في إعادة إعمار المقامات المسيحيّة الّتي دمّرها المسلّحون التكفيريّون في هجماتهم المتكرّرة على مناطق مسيحيّة أثريّة في شمال غرب دمشق، مثل معلولا وصيدنايا. وعلى هامش تلك الزيارة، التقى هؤلاء عدداً من البرلمانيّين الفرنسيّين النّاشطين، دفاعاً عن مسيحيّي المشرق. ومن جهة أخرى، كانت السفيرة الفرنسيّة السّابقة في باريس لميا شكّور، حاضرة لتلك اللقاءات الّتي وضعت تحت شعار العمل الإنسانيّ والحفاظ على آثار التراث العالميّ في سوريا، غير أنّ المداولات والنقاشات، لم تلبث أن تطوّرت إلى طرح فكرة زيارة يقوم بها فرنسيّون لسوريا، لمعاينة الوضع على الأرض. وتتابع المعلومات الخاصّة بموقعنا، أنّ السفيرة شكّور تولّت من الجانب السوريّ ترتيبات الزيارة، فيما تولّت المنظّمة الفرنسيّة SOS Chretien التّنسيق في باريس، حتّى توّجت الخطوة بوصول وفد برلمانيّ سياسيّ فرنسيّ إلى بيروت، وانتقاله منها إلى دمشق. ولقد ضمّ كلاًّ من رئيس الوفد النائب جان بيير فيال، النائب جاك ميار، النائب فرانسوا زوشيتو، المفتّش العامّ في وزارة الدفاع الفرنسيّة باتريك باركاند، المستشار الأمنيّ في السفارة الفرنسيّة في بيروت ستيفان رافيون وجيروم توسان، إضافة إلى النائب الفرنسيّ جيرار بابت من حزب الرّئيس الفرنسيّ فرانسوا هولاّند، والمقرّب منه، والّذي تمايزت حركته واجتماعاته في دمشق عن حركة زملائه الآخرين، كما نعرض لاحقاً.
وفي هذا الإطار، تبرز مؤشّرات لافتة، تتعدّى السّياق الإنسانيّ إلى السياسيّ، ومنها التّالي:
أوّلاً: حرص الفرنسيّون الذاهبون إلى دمشق، قبل الانتقال إليها من بيروت، على لقاء شخصيّة لبنانيّة واحدة، إذ أكّدت معلومات موثوقة لموقعنا أنّ هؤلاء اجتمعوا في العاصمة اللبنانيّة بسياسيّ مسيحيّ لبنانيّ بارز، على علاقة جيّدة مع السلطات السوريّة، كما مع "حزب الله". وقد أبلغ السياسيّ نفسه موقعنا، بعدما طلب عدم الكشف عن اسمه، أنّ الفرنسيّين أجروا معه جولة أفق حول الوضع في سوريا، وأفق الحلّ السياسيّ هناك. كما حرصوا على سماع وجهة نظره حول الخطر الإرهابيّ الّذي يحدق بسوريا عموماً وبمسيحيّيها خصوصاً، وسبل مواجهته، فضلاً عن رأيه في دور "حزب الله" في النّزاع السوريّ ومساهمته في مواجهة إرهابيّي داعش ومثيلاته، ودفاعه عن وجود الأقليّات هناك. كما كشف السياسيّ نفسه لموقعنا أنّ الوفد نفسه اتّفق معه على لقاء ثان بعد عودته من دمشق، ودائماً بعيداً عن الإعلام.
ثانياً: كان لافتاً أيضاً، مستوى اللقاءات الّتي عقدها الفرنسيّون في العاصمة السوريّة، بحيث جاءت اجتماعاتهم بنصاب سياسيّ سوريّ كامل، إذ التقى الوفد وزير الخارجيّة السوريّة وليد المعلم ورئيس البرلمان السوريّ محمّد جهاد اللّحام، قبل أن يتوّج زيارته بلقاء بشار الأسد، حيث تركّز البحث على مواجهة الإرهاب، كما ذكر الخبر السوريّ الرسميّ الموزّع. مع العلم أنّ النائب جيرار بابت، لم ينضمّ إلى زملائه في لقائهم مع الأسد، بل حاول حصر نشاطه في الشقين الإنسانيّ والمسيحيّ، واكتفى بحضور الاجتماعات التي عقدها الوفد الفرنسيّ مع رئيس البرلمان ووزير الخارجيّة ونائبه فيصل المقداد ومفتي سوريا أحمد بدر الدين حسّون وبطريرك الروم الكاثوليك غريغوريوس الثالث لحّام وبطريرك الروم الأرثوذكس يوحنا العاشر يازجي ورئيس الهلال الأحمر السوريّ عبد الرحمن العطّار، إضافة إلى زيارتهم لمدرسة فرنسيّة ومركز لإيواء النازحين، وهو ما قيل في كواليس الوفد أنّه عائد إلى العلاقة الوثيقة بين بابت وهولاّند، بحيث يرجّح أن يكون قد اتّفق مع رئيسه على قيامه بالزيارة، شرط عدم لقائه الأسد، تجنّباً لإحراج هولاّند تجاه خصوم الرّئيس السوريّ عربيّاً وغربيّاً.
ثالثاً: تأكيد البرلمانيّين الفرنسيّين بعد زيارتهم، أنّ الأسد هو جزء من الحلّ في سوريا، وذلك في شكل منسجم مع كلام دي ميستورا السّابق، ومعاكس للمواقف الفرنسيّة الرسميّة المعلنة بضرورة رحيل الرّئيس السوريّ.
رابعاً: حصول تلك الزيارة، رغم طابعها الإنسانيّ المعلن، بعد شهر ونيّف على الحوادث الإرهابيّة الّتي شهدتها باريس، خصوصاً مذبحة مجلّة "شارلي هبدو" في 7 كانون الثاني الماضي، الّتي نفّذها إرهابيّون من الأصوليّين السنّة، حيث تردّد يومها أنّ زوجة أحد المتورّطين في تلك الحوادث، حياة بو مدين، كانت في سوريا أو لجأت إليها، وهو ما يثير فرضيّة الحاجة الفرنسيّة إلى التّعاون الأمنيّ مع دمشق، خصوصاً في ظلّ الكلام المتكرّر عن وجود مئات الأصوليّين الوافدين من فرنسا للقتال في سوريا مع الجماعات الإرهابيّة هناك، وفي ظلّ الخوف الفرنسيّ من احتمال عودتهم إلى فرنسا أو إمكان احتفاظهم بشبكة علاقات مع خلايا نائمة لهم على الأراضي الفرنسيّة.
خامساً: ارتباط هذه المستجدّات بمعلومات خاصّة بموقعنا أيضاً، تشير إلى تبديل السفير الفرنسيّ في بيروت في غضون الأسابيع المقبلة، بحيث يحلّ محلّ السفير الحاليّ باتريس باولي، ديبلوماسيّ آت من الإليزيه، هو إيمانويل بون، علماً أنّ الأخير يشغل حاليّاً مركزاً ضمن الخليّة الديبلوماسيّة التّابعة لهولاّند في قصر الرئاسة، وهو كان أحد زوّار دمشق في فترة التّفاوض الفرنسيّ – السوريّ، مما يشير في حال حصول ذلك، إلى إمكان اعتماد سفارة فرنسا في بيروت، قناة خلفيّة لإعادة الاتّصال بدمشق.
صحيح، فيما سياسة باريس المعلنة هي القطيعة مع دمشق، قد يكون تعيين بون وسيلة لفتح قنوات خلفية للتواصل.