النبك — ليس تجميلاً للموت أو استخفافاً به، وليس استهتاراً بآلام من عانوا الموت في محيطهم، بل لنقول إنّ في سوريا بلدنا من يستحقّ الحياة ومن يريد السلام، ولنؤكّد أنّنا مستمرّون في العطاء والبناء من أجل غد أجمل وأفضل لكلّ السوريين. بهذه الكلمات، وصفت المديرة التنفيذيّة لملتقى "سوريّات يصنعن السلام" أميرة مالك مشروع "جدران السّلام" الذي بدأ خطواته الأولى الأسبوع الماضي عبر رسم جدار مقبرة مدينة النبك في ريف دمشق (80 كلم شمال دمشق - 15 كلم عن الحدود اللبنانيّة) وتلوينه.
تقع مدينة النبك ذات الأقليّة المسيحيّة، وسط الطريق الدوليّ دمشق – حمص، وسيطر عليها مقاتلو المعارضة في عام 2012 بعد سنة من المظاهرات السلميّة والقمع الأمنيّ، لتتحوّل إلى مسرح للقصف والقنص من قبل الجيش السوريّ ردّاً كلّ مرّة يقوم فيها مقاتلو المعارضة بعمل عسكريّ أو بخطف لعناصر من الجيش السوريّ على الأتوستراد الدوليّ المجاور للمدينة. لقد تحوّلت مدينة "العنب والهريسة‘"، كما يصفها أهلها، إلى مدينة للقتل والخطف والقنص، لتعود المدينة اليوم إلى الحياة وتنفض غبار الحرب عنها، بعد أن أوقّف الجيش السوريّ القصف، إثر إعادة سيطرته عليها في ديسمبر الماضي 2013.
وتقوم فكرة المشروع على نشر الفنّ وتوسيع نطاقه ليتعدّى الصالونات والمعارض وليصبح في متناول كلّ الشرائح المجتمعيّة، واستخدام هذا الفنّ في إيصال مفهوم السلام، وذلك من خلال الفريق الذي يقوم بالعمل، وهو يضمّ مجموعة من الرسّامين والمتطوّعين من محافظات مختلفة سيقومون بزيارة المدن المستهدفة والتعرّف عليها أكثر عن قرب وترك بصمة سلام فيها.
إنّ مشروع "جدار السّلام" في النبك، حمل شعار "من الموت إلى الحياة". وعن سبب اختيار هذه المدينة كنقطة انطلاق، قالت أميرة مالك لـ"المونيتور": "إنّ المدينة شهدت أحداثاً دامية راح ضحيّتها الكثير من المدنيّين. كما إنّي من سكان النبك. ولهذا، فأنا مرتبطة بها عاطفيّاً، والمقبرة التي نرسم على جدارها دفن فيها والدي".
أضافت: "نسعى من خلال المشروع إلى الدمج بين الفنّ والسّلام من خلال لوحة جداريّة سمّيت "جدران السّلام". وتمّ اختيار "من الموت إلى الحياة " شعارا للحملة، الأمر الذي جعل جدران المقابر هي الجدران التي سيتمّ الرسم عليها".
وعند التّاسعة من صباح يوم الأربعاء، وصلنا إلى مدينة النّبك بعد أن قضينا ساعة ونصف ساعة ومررنا على أربعة حواجز للجيش السوريّ. وأمام جدار المقبرة التي تقع شرقي النبك، جاء 30 شاباً وشابة من دمشق وطرطوس والسويداء، معظمهم من طلاّب كليّة الفنون الجميلة. وإنّ العدد نفسه كان ينتظرنا من سكّان النبك، وهم فتيات وشبّان وكبار في السن أيضاً. إنّ المدينة التي بدت عليها ملامح الحرب واضحة من خلال بعض الأبنية المدمّرة وآثار الرصاص واللون الأسود على الجدران تستعدّ لتصبح ملوّنة مع ضربات ريش الفنّانين التي بدأت تخطّ الملامح الأولى للّوحات التسع التي يفترض أن تنجز خلال هذا النّهار.
وإنّ سكان الحيّ جميعهم أصبحوا جزءاً من هذا المشروع، ومن لم يستطع الرّسم شارك في إحضار الماء والطعام إلى المتطوّعين، وما هي إلاّ ساعات قليلة حتى جاء فريق آخر من شبان مدينة دير عطيّة 10 (كلم شمال مدينة النبك)، لتتحوّل الساحة الأماميّة للمقبرة إلى خليّة نحل، وتبدأ الملامح الأولى للوحات بالظهور، وفي مقدّمها شعار مدينة النبك المتمثّل بطائر السنونو وعرائش العنب وسلل القش. وفي لوحة أخرى، نرى الكنيسة تعانق الجامع وتتداخل بينهما الأبنية القديمة التي تدلّ على النبك، وبجوارها حمامة السّلام. وهناك لوحة أخرى رسمت فيها أشكال مكعّبات بجانب بعضها للدّلالة على تنوّع مكوّنات الشعب السوريّ. وبعد 7 ساعات من العمل المتواصل، تحوّل جدار المقبرة الرماديّ إلى لوحة فنيّة امتدّت على مساحة 83 متراً مربّعاً.
والتقى "المونيتور" إحدى المتطوّعات في المشروع سولافة أبو سنّ، وهي من سكّان النبك ومدرّسة في مدرسة الفنون النسويّة، وجاءت للمشاركة مع 12 من طالباتها، وقالت لـ"المونيتور": "لقد شاركت في الرسم على جدران المقبرة مع طالباتي لأؤكّد أنّ النبك تعافت من جراح الحرب. إنّي أريد أن أزرع شيئاً جديداً في نفوس طالباتي، فلم أراهن بهذا الحماس منذ فترة، وآمل أن ينتقل هذا الحماس إلى جميع الأهالي حتى تعود الحياة في النبك كسابق عهدها ويعود التفاؤل من جديد".
أضافت: "لطالما كانت المقبرة رمزاً للموت ونهاية الحياة، ولكن من يعبر اليوم من سكّان المدينة أمامها، سيجد ألواناً تذكّره بأنّ الحياة ستستمرّ".
وسألت بغصّة: "ألم تشبع هذه المقبرة من ابتلاع المزيد من شبابنا كلّ يوم؟".
ويذكر أنّ ملتقى "سوريّات يصنعن السّلام" Syrian Women Forum For Peace هو منظّمة مجتمع مدنيّ سوريّة تهدف إلى العمل على صناعة رأي عام سوريّ ودوليّ ضاغط على صنّاع القرار لاعتماد السبل السلميّة في الحياة السياسيّة وفي بناء الدولة الديموقراطيّة، وإلى تكريس ثقافة السلام عند جميع السوريّين، إضافة إلى تمكين المجتمعات المحليّة السوريّة من القيام بدور فاعل في العمليّة السياسيّة السلميّة، وتأكيد السلم الأهليّ.
وأكّد هذا الملتقى من خلال إطلاقه هذا المشروع ، إصراره على بناء السّلام في الداخل السوريّ بطرق ووسائل متنوّعة، ومن خلال تمكين المرأة السوريّة وتغيير ثقافة الحرب والعنف السائدة. وأنّ المشروع لن يتوقّف هنا، بل سينتقل إلى محافظات ومدن أخرى لنشر مفهوم "من الموت إلى الحياة " وبناء جدارن سلام سوريّة بمكوّناتها ومدلولاتها وصانعيها.