بعث الفنّان التشكيليّ إياد صبّاح الحياة إلى المناطق التي دمّرها الاحتلال في حيّ الشجاعيّة - شرق مدينة غزّة، إذ التقط مشاهد المعاناة والدمار هناك لينتج تماثيل تجسّد وتعكس آلام أهالي الحيّ أثناء الحرب ونزوحهم، ليعرضها على قطعة أرض صغيرة تحيط بها المباني المدمّرة من كلّ مكان، ومن بينها مستشفى الوفاء التأهيليّ الذي أصبح أثراً بعد عين.
إنّ القادم إلى حيّ الشجاعيّة الذي تعرّض للمجزرة الجماعيّة الأولى، وأكبر موجة نزوح، وأشرس دمار، على مستوى قطاع غزّة في الحرب الإسرائيليّة الأخيرة، يشتمّ رائحة الموت بكلّ زقاق فيه، بل يراه في عيون السكّان. فالحياة في الحيّ والمباني والبنية التحيّة تهالكت بكلّ ما فيها، وقبلهما نفسيّات السكّان.
وقال صبّاح، الذي يحاضر أيضاً في إحدى جامعات غزّة، لـ"المونيتور": إنّ المشروع الذي بدأه بعد الحرب مباشرة وأطلق عليه اسم "تهالك"، استمرّ به نحو شهر ونصف شهر، وهو يأتي في إطار الفنّ المعروف باسم "الأعمال التركيبيّة في الفضاء الطلق".
أضاف: "لقد بدأت بعد الحرب التّفكير ودراسة كيفيّة إنجاز عمل يعبّر عن المأساة في شكل مباشر ويصل إلى الناس. وأطلقت على المشروع اسم "تهالك" لارتباطه بالحال النفسيّة الموجودة والمباني والبنية التحتيّة المدمّرة، فتشعر حينما تدخل حيّ الشجاعيّة بأنّ كلّ شيء أصبح متهالكاً".
ورأى صبّاح أنّ الفنّان مرآة لعصره وبلده، فكلّ الفنّانين تأثّروا بالحرب ومآسيها التي لم تكن طبيعيّة، متوقّعاً أن يكون لكلّ فنّان مشروع وعمل له علاقة بالحرب، وقال: "تنعكس الحرب على الإنتاجات الفنيّة وكلّ نواحي الحياة، فحال النزوح من حيّ الشجاعيّة مرعبة، وجميعنا تأثّر بها، رغم أنّ الحدث ذاته كان موجوداً في كلّ مناطق قطاع غزّة، غير أنّ حدث الشجاعيّة أعطانا مشاهد تختلف نوعاً ما عن بقيّة المناطق".
طوّع صبّاح، الذي كان أحد النازحين أثناء الحرب من بيته في منطقة السودانيّة - شمال قطاع غزّة، التي كانت تمتاز بسخونة أوضاعها، العديد من الموادّ التي لا تستخدم في الأساس في النحت في شكل كامل بسبب طبيعتها الهشّة كموادّ الألياف الزجاجيّة والطين والخشب، واستخدمها في المجسّمات كي تعبّر عن هشاشة الموضوع.
لقد صنعت الحرب الإسرائيليّة الأخيرة على غزّة حالاً إبداعيّة جديدة لدى الفنّانين بكلّ صنوف الفنّ، حيث كانت وصفتها خليطاً من الأفكار الإبداعيّة والمعاناة، وكان نتاجها حالاً فريدة، لا سيّما أنّ الفنّانين كانوا جزءاً من القصّة.
إنّ الرسّامة الشابّة هناء حمّش، البالغة من العمر 24 عاماً، كانت هي ورسومها جزءاً من حوادث الحرب، فنزحت من بيتها الذي تعرّض إلى تدمير جزئيّ أدّى إلى تهشيم مرسمها، إضافة إلى اختراق عدد من رسومها بشظايا الصواريخ.
ونظّمت حمّش معرضاً لرسومها بعنوان "غزّة 52"، وهو يرمز إلى اليوم الأوّل بعد انتهاء الحرب الإسرائيليّة على القطاع، والتي استمرّت 51 يوماً، وقالت لـ"المونيتور": "في اليوم 52، عادت الحياة إلى شكلها الطبيعيّ، لكنّه حمل لنا الكثير من المعاناة، التي كشفت بعد انتهاء الحرب، والمعرض يحكي عن معاناة النساء والأطفال خصوصاً أثناء الحرب، إضافة إلى موضوع الوحدة الوطنيّة".
ورغم فقدانها مرسمها وكلّ مقوّمات الرسم، إلاّ أنّها أصرّت على التّواصل مع مؤسّسات شبابيّة داعمة لتوفير إمكانات الرّسم وإقامة معرض جديد يضمّ نحو 25 لوحة بين جديدة وأخرى قديمة تضرّرت بفعل الصواريخ.
ولفتت حمّش التي عرضت لوحاتها في السابق في معارض جماعيّة وفرديّة عدّة في غزّة والولايات المتّحدة الأميركيّة ومصر، إلى أنّها أفردت مساحة واسعة من المعرض للحرب الإسرائيليّة على القطاع ومعاناة المواطنين.
لم يتوقّف الإبداع في الفنون عند حدّ عرض المعاناة في شكل مجرّد فحسب، وإنما استخدمت لعرض المعاناة بطريقة هزليّة والتّخفيف منها، كما في المسرح. وفي هذا المجال، أكّد المدير التنفيذيّ لمؤسّسة أيّام المسرح في غزّة رأفت العايدي، أنّ الأثر النفسيّ الذي تركته الحرب على الأطفال وكلّ طبقات المجتمع قويّ وعميق جدّاً، ممّا فرض عليهم التدخّل في شكل سريع لحاجة المواطنين والأطفال بالتّعبير عمّا واجهوه خلال الحرب.
وقال العايدي الذي يعمل ممثلاً ومخرجاً وكاتباً لـ"المونيتور": "بدأنا بعد الحرب مباشرة في المدارس بأربعة عروض مسرحيّة، كانت هي في الأساس جاهزة بعد فترة حرب عام 2012، ووجدنا أنّها ملائمة للفترة التي تلت الحرب الأخيرة، فيما كان يتبع كلّ عرض مسرحيّ كوميديّ ورشة دراما للأطفال لمشاركتهم في آرائهم وأحاسيسهم".
واستهدفت العروض المسرحيّة التي قدّمها نخبة كبيرة من الكوميديّين الفلسطينيّين على مستوى قطاع غزّة، نحو 55 ألف طفل، إضافة إلى نحو ألفي شخص من الكبار ما بين أولياء أمور ومدرّسين وزوّار.
وأشار العايدي إلى أنّهم كمسرحيّين عادوا للعمل على خشبة المسرح بطاقة أكبر من تلك التي كانوا يمتلكونها قبل الحرب، إذ أنّهم وجدوا أنفسهم على قيد الحياة، محتفظين بذكريات كبيرة ومخزون ضخم من الأفكار التي بدأوا بالإعداد لتحويلها إلى مسرحيّات، وقال: "نجهّز الآن لمهرجان مسرحيّ ودراميّ كبير تحت عنوان البناء، والعمل على بناء النفسيّة والحياة التي هدّمتها الحرب، وستكون العروض المسرحيّة خلال أيّام في المدارس الحكوميّة ووكالة الغوث على مدار أسبوع كامل".
وعن أثر الفنون المسرحيّة وقوّة رسالتها، بيّن العايدي أنّهم استهدفوا في عرض مسرحيّ قصير اسمه "إجازة صيف في غزة" بعض المجتمعات الأوروبيّة، إذ عرضوه في شكل مكثّف في بلجيكا على مدار ثلاثة أسابيع، وكان يحاكي العرض معاناة الغزيّين خلال الواحد والخمسين يوماً من الحرب، وترك أثراً قويّاً وكبيراً في نفوس الشعب البلجيكيّ.
لقد ألبست الحرب الإسرائيليّة الأخيرة على قطاع غزّة الفنون في غزة حلّة جديدة، فبات الفنانّون يعبّرون عن المعاناة بكثير من الجماليّات والإبداع التي تتراوح بين العرض المباشر والتندّر عليها.