لا يزال حدث طرد المسيحيّين من شمال غرب العراق على أيدي مسلّحي "الدولة الإسلاميّة " يتفاعل في لبنان، وذلك لأسباب عدّة منها أنّ لبنان يضمّ الجماعة المسيحيّة الأكبر بين مختلف بلدان الشرق الأوسط، إضافة إلى أنّ مسيحيّيه يشغلون مواقع رسميّة، تسمح لهم برفع الصوت وإعلان المواقف والمطالب المختلفة، وهو ما فقده مسيحيّو البلدان المجاورة الأخرى من دون استثناء. كما أنّ الكنائس المعنيّة بمأساة مسيحيّي الموصل وسهل نينوى، لم تعد موجودة فعليّاً إلاّ في لبنان، كمقرّات دينيّة ورعايا ومسؤولين كنسيّين، كما هو حال كنائس الكلدان والأشوريّين والسريان التي تحوّل وجودها في أوطانها الأصليّة إلى وجود رمزيّ أو شكليّ صامت في غالب الأحيان. لكلّ هذه الأسباب، عقد يوم الخميس في 7 آب/أغسطس الجاري لقاء في المقرّ الصيفيّ لبطريركيّة الموارنة في الديمان، شمال لبنان، حضره بطاركة الشرق كافّة. خصّص الاجتماع لعرض ثلاث مسائل: الأحداث في غزّة، المعارك في منطقة عرسال اللبنانيّة بين الجيش اللبنانيّ والمسلّحين الأصوليّين السنّة، ومأساة تهجير مسيحيّي الموصل وسهل نينوى. غير أنّ مصادر مشاركة في الاجتماع أكّدت لموقعنا، أنّ "الموضوعين الأوّلين لم يستغرقا أكثر من دقائق قليلة من البحث. وكانت الفقرات المتعلّقة بهما شبه جاهزة مسبقاً، لمسوّدة البيان الختاميّ الذي صدر عن الاجتماع".
أمّا صلب المناقشات فتركّز على الحدث العراقيّ. وتضيف الأوساط نفسها أنّ "المداخلات التي تقدّم بها المسؤولون الدينيّون شدّدت على تحديد المسؤوليّات حول المأساة التي ضربت مسيحيّي العراق، منذ العام 2003. فكان الكلام صريحاً في إلقاء المسؤوليّة أوّلاً على تداعيات الاحتلال الأميركيّ للبلاد، كما على نزعات العنف والتطرّف المتفشّية راهناً في الفكر السياسيّ الإسلاميّ، وصولاً إلى مسؤوليّة دول الجوار العراقيّ، بين من هو متورّط ومن هو مقصّر، ومن يسعى إلى تحقيق مكاسب سياسيّة وحسابات سيطرة ونفوذ على حساب تلك المأساة". وتكشف الأوساط المشاركة أنّ "أجواء اللقاء سادها استياء شديد من الصمت الغربيّ، ومن عجز المجتمع الدوليّ والشرعيّة الدوليّة حيال جرائم موصوفة ضدّ الإنسانية ترتكب بحريّة وتفلت من العقاب". لا بل أكثر من ذلك، ارتفعت بين المسؤولين الكنسيّين أصوات تتّهم بعض العواصم الغربيّة بالتآمر على مسيحيّي الشرق، وذلك استناداً إلى نظريّات قديمة معروفة لدى مسيحيّي هذه المنطقة من العالم، تحاول ربط عوامل عدّة ببعضها، منها النفوذ الإسرائيليّ لدى بعض العواصم الغربيّة، والمصلحة المحتملة لإسرائيل في إقامة كيانات مذهبيّة صرفة حولها، إضافة إلى المصالح الغربيّة في ممالأة البلدان الإسلاميّة النفطيّة، خصوصاً أنّ غالبيّة تلك البلدان تمارس تمييزاً فعليّاً وشاملاً ضدّ المسيحيّين على أراضيها، وهو ما يشكّل نموذجاً واضحاً للحركات الأصوليّة. ورغم تمايزات بسيطة في قراءة الكنسيّين حيال هذه المقاربة، إلاّ أنّهم أجمعوا على الرفض المطلق للموقف الفرنسيّ الذي بدا وكأنّه يستدرج مسيحيّي الموصل إلى الهجرة وترك أوطانهم الأصليّة. و ما اعتبروه صفعة كبيرة للموقف المسيحيّ المشرقيّ، تتراوح بين الجهل وبين التورّط الغربيّين.
من جهّته، اكتفى رئيس الطائفة الكلدانيّة في لبنان، الأسقف ميشال قصارجي في حديث لموقعنا بعرض ما يمكن فعله حيال مأساة الموصل ونينوى. فأكّد أنّ "رؤساء الكنائس بحثوا خلال لقائهم كلّ سبل المساعدة الممكنة". وكشف أنّ "فكرة أوّلية قد تمّ تبنّيها، تقضي بقيام البطاركة بزيارة بغداد في أسرع وقت ممكن، وقد يكون ذلك خلال أسبوع، وذلك من أجل البحث مع الحكومة العراقيّة في أوضاع المسيحيّين العراقيّين، مع احتمال أن ينتقل الوفد الكنسيّ الرفيع المستوى إلى إربيل للغاية نفسها". كما كشف قصارجي أنّ "البطاركة يدركون أنّ مصير أبنائهم في العراق، أو ما تبقّى من أكثر من مليون ونصف مسيحيّ عراقيّ، هو في أيدي عواصم عدّة في أكثر من قارّة حول العالم. وهم لذلك يفكّرون بالتوجّه نحو تلك العواصم كافّة، من طهران والرياض وأنقره، إلى الغرب والشرعيّة الدوليّة". كما طرحت أفكار من نوع تنظيم اعتصامات شعبيّة أمام مقرّ منظّمة الـ"أونسكو" في باريس، استنكاراً لتدمير الآثار العراقيّة المدرجة على لائحة التراث العالميّ، وذلك بغية تحريك الرأي العام الدوليّ، ولو تحت عنوان إنقاذ الحجر، إن لم يكن ذلك ممكناً من أجل إنقاذ البشر، إضافة إلى متابعة التنسيق مع وزارة الخارجيّة اللبنانيّة، حيال خطّة تحرّكها التي كانت قد أعلنت عنها لمتابعة هذه القضيّة .
أمّا من الناحية الإنسانيّة، فأكّد النائب البطريركيّ العام للسريان الكاثوليك الأسقف يوحنّا جهاد بطاح، لموقعنا، أنّ "المأساة الإنسانيّة للنازحين تتفاقم يوماً بعد يوم، خصوصاً بعد وصول مسلّحي "الدولة الإسلاميّة" إلى عمق سهل نينوى واحتلالهم كبرى البلدات المسيحيّة هناك، قرقوش". واعتبر بطاح أنهّ "لولا واقع عدم حيازة النازحين أيّ أوراق ثبوتيّة أو أيّ وثائق سفر، بعدما فرض عليهم مسلّحو "الدولة الإسلاميّة" الهرب عزّل من أيّ شيء باستثناء ما يرتدون من ثياب، لكان هؤلاء قد بادروا إلى الهجرة من العراق كليّاً. غير أنّ أوضاعهم تلك فرضت عليهم البقاء حيث تمكّنوا من اللجوء في ما تبقّى من قرى مسيحيّة في سهل نينوى وفي بعض جبال دهوك، إضافة إلى ضاحية عنكاوة المحاذية لإربيل، وذات الغالبية السكّانية المسيحيّة". ويضيف الأسقف قصارجي في السياق نفسه أنّ "هذه الأوضاع المأساويّة تؤكّدها نحو مئة عائلة من مسيحيّي الموصل، تمكّنت من الوصول إلى بيروت، وهي في وضع مزرٍ وشبه معدم، حتّى أنّ بعضها لم يجد مأوى غير مقرّ البطريركيّة الكلدانيّة قرب بيروت".
لا تنتهي أحاديث المسؤولين الكنسيّين عن آخر فصل من مآسي المسيحيّين في البلدان الإسلاميّة. وفي أحاديثهم تلك نوع من التجاذب الذاتيّ الدفين بين شعورين: إدراك مكتوم بأنّ هذا الفصل سيكون الأخير وأنّ الأصوليّة الإسلامية ستقتلع مسيحيّة الشرق نهائيّاً، وإيمان خفيّ بأنّ الروح القدس هو من أبقى هذه الجماعة ألفي عام في أرضها وسط الأهوال، وهو من سيبقيها بعد. أيّ الشعورين هو الصحيح؟ يبدو أنّ جواب التاريخ لن يتأخّر كثيراً هذه المرّة.