أشارت صحيفة "العالم" البغداديّة في تقرير نشر في السادس من أيار/مايو الجاري إلى أن تصريحات المرجع الديني بشير النجفي -وهو واحد من المراجع الأربعة الكبار في النجف- التي دعا فيها الناخبين العراقيّين إلى عدم الاقتراع لصالح رئيس الوزراء نوري المالكي لم تكن حدثاً منفصلاً. فقد نقلت الصحيفة عن مصدر مقرّب من المؤسسة الدينيّة في النجف أن نجل آية الله النجفي الشيخ علي، قام قبيل الانتخابات الأخيرة التي أجريت في 30 نيسان/أبريل المنصرم بجولة في الجنوب دعا فيها إلى التصويت لصالح ائتلاف المواطن الذي يرأسه عمار الحكيم.
وعلى الرغم من أن الموقف الحاد الذي اتخذه المرجع النجفي ضد المالكي قبل أيام قليلة من موعد الانتخابات فاجأ الكثيرين، إلا أنه ليس خافياً على أحد في الأوساط السياسيّة والدينيّة وجود توتّر بين الرجلَين كانت قد عبّرت عنه بشكل ضمني تصريحات وتلميحات سابقة. ويبدو أن النجفي يأخذ على المالكي عدم الاستماع لنصائح المرجعيّة، ومن بينها نصيحة تقول بـ"استبدال المناهج الدراسيّة لتعكس أكثر وجهة النظر الشيعيّة"، فضلاً عن ما اعتبره إخفاقاً في إدارة الملف الأمني من قبل المالكي. وعلى الرغم من أن كثيرين توقعوا أن يكون لدعوة النجفي أثر سلبي على حظوظ المالكي الانتخابيّة، إلا أن ما تسرّب حتى الآن من معلومات عن نتائج الانتخابات لا يوحي بأن تلك التصريحات قد أحدثت تغييراً جذرياً في التوازنات السياسيّة. ويعود ذلك على الأرجح إلى كونها لم تلقَ دعماً صريحاً من المرجع الأعلى علي السيستاني الذي حافظ على موقفه الداعي إلى المشاركة في الانتخابات "واختيار الأصلح"، من دون أن يكشف عن أي انحياز صريح لصالح أي من القوى المتنافسة. كذلك، فإن النجفي لا يمتلك عدداً كبيراً من الأتباع في داخل العراق، فضلاً عن أن بعض تصريحاته لم تتّسم بالإقناع الكافي ولم تستند إلى حجج قويّة.
مع ذلك، فإن بالإمكان استشعار نوع من التوتر بين حكومة المالكي وبين المؤسسة الدينيّة الشيعيّة في مجملها، عكسته مقاطعة المرجع الأعلى علي السيستاني للمسؤولين الحكوميّين ودعوة ممثليه الناخبين "إلى التغيير"، بالإضافة إلى استقباله لزعيم التيار الصدري المعروف بنقده الشديد للمالكي قبيل الانتخابات وإجابته بما يشبه النفي على سؤال وجّه إليه حول تصريحات للمالكي عن احترام خاص يكنّه المرجع لرئيس الوزراء.
وفي حديث غير رسمي، يقول سياسي شيعي لـ"المونيتور" إن مرجعيّة السيستاني تعتقد بأن استمرار رئيس الوزراء المالكي في السلطة أو استبداله بقيادي شيعي من الأحزاب الرئيسيّة، سوف يعمّق أكثر المشاكل التي يواجهها البلد. فحتى لو ضمن المالكي ولاية ثالثة، فإنه سيواجَه بعرقلة شديدة من قبل خصومه الذين سيقبلون باستمراره في منصبه على مضض لكنهم سيحاولون تنحيته أو إضعافه بكل طريقة ممكنة، فيما سيشعر هو بحالة من عدم الثقة ويشكّ في القوى الأخرى التي بلغ انتقاده لها حدّ التمني في حوار تلفزيوني بـ"اختفاء هذه النخبة السياسيّة كلها". في المقابل، فإن المجيء بشخصيّة بديلة وفق اتفاق شراكة جديد سيعني تكرار تجربة الحكومة الهشة والمنقسمة على نفسها بفعل تقاسم المناصب والموارد. يضيف السياسي المذكور أن المرجعيّة ترغب بشخصيّة مستقلة من خارج القوى الشيعيّة التقليديّة تتمتّع بالتفويض وبقدرٍ من الاستقلاليّة النسبيّة في العمل بمعزل عن مصالح الأحزاب المتصارعة.
وعلى الرغم من إحجام مرجعيّة السيستاني عن التدخل العلني في الصراع السياسي، إلا أن بعض الأسباب تدفع إلى الاعتقاد بأنها ستواصل لعب دور ما في المرحلة المقبلة. فالمرجعيّة تعتقد أنها تتحمّل مسؤوليّة أخلاقيّة تحتّم عليها عدم ترك الصراعات تتفاقم إلى حد انهيار النظام السياسي أو تفكك البلد. كذلك فإن تضخّم قوة رئيس الوزراء والقوى المرتبطة به، ربما أشعر المرجعيّة بأنها تفقد تدريجياً دورها القيادي في المجتمع الشيعي. فلأول مرّة في تاريخ العراق الحديث، ثمّة حكومة تقودها شخصيّة إسلاميّة شيعيّة أصبحت تشعر بثقة أكبر بالنفس وبقدرتها على التأثير السياسي والاجتماعي عبر السلطة والموارد التي تمتلكها، ومن دون الحاجة إلى الاستظلال بمظلة مرجعيّة النجف مثلما حصل في أول انتخابات شهدها البلد في العام 2005 حينما كانت قوى مثل حزب الدعوة الإسلاميّة والمجلس الأعلى الإسلامي العراقي لا تزال بقواعد اجتماعيّة محدودة.
ويمكن القول إن الانتخابات البرلمانيّة الأخيرة شهدت مزيداً من الافتراق بين "الشيعيّة السياسيّة" ممثلة بائتلاف المالكي وحلفائه وبين "الشيعيّة الدينيّة". فالتقارب الذي حصل بين عمّار الحكيم ومقتدى الصدر -وهما ينتميان الى أبرز العوائل الدينيّة النجفيّة التي تنافست في ما بينها سابقاً- ثم تزكية المرجع النجفي لائتلاف المواطن [برئاسة الحكيم] ونقده للمالكي، أوحت بأن القوى الدينيّة الشيعيّة تشعر بالتهديد أكثر من تعاظم قوة رئيس الوزراء الشيعي الذي بنى ائتلافاً شيعياً غير ديني ونجح في نسج شبكة تحالفات براغماتيّة ومصلحيّة واسعة في البيروقراطيّة الحكوميّة والمؤسسة العسكريّة ومع بعض رجال الأعمال الجدد. مثل هذا التوتر يوحي بانقسام في داخل الطائفة بين تيار دولتي يشبه في تركيبته الكثير من أحزاب السلطة في العالم الثالث ويتمتّع بموارد واسعة يؤمّنها الريع النفطي ويتم استخدامها في الزبائنيّة السياسيّة، وبين القوى والعوائل الدينيّة التقليديّة التي تشعر بتراجع مواردها وقدرتها على التعبئة الاجتماعيّة.
مثل هذا الانقسام يفسّر الموقف المتشدّد للزعامات الدينيّة تجاه المالكي والذي قد يتمخّض لاحقاً عن مقاومة شديدة لاستمراره في السلطة. يعني ذلك أن التنافسات الشيعيّة–الشيعيّة هي التي ستقرّر هذه المرّة وإلى حدّ كبير الاتجاه الذي ستسير فيه البلاد بعد الانتخابات الأخيرة.