تعدّ الانتخابات بالنسبة إلى بلد جديد العهد بالديمقراطيّة مثل العراق، أمر أكبر بكثير من الانتقال من حكومة إلى أخرى. فهي تظهر مسار عمليّة إرساء الديمقراطيّة وتحولاتها في البلد، لجهة تحسين السلوك والممارسة الديمقراطيّة من قبل الشعب والكيانات السياسيّة أو تدهورها. وما أظهره السلوك الانتخابي في هذه الدورة من حيث حجم المشاركة ونوعيتها بالإضافة إلى النتائج التقريبيّة المعلنة حتى الآن، يكشف عن تطوّر إيجابي ملاحظ في ما يخصّ الانتقال إلى ديمقراطيّة مستقرّة تدريجياً.
في هذه الانتخابات التي جرت في 30 نيسان/أبريل المنصرم وكسابقاتها، برزت أصوات تنادي بتحريم عمليّة الاقتراع أو بعدم الاعتراف بنتائجها. لكن تلك الأصوات لم تلقَ استجابة كبيرة، بل على العكس تصاعدت الأصوات المطالبة بالمشاركة الفعالة لتغيير الوضع، بين كل المكوّنات العراقيّة.
فقد أصدر الشيخ عبد الملك السعدي المرجع الديني البارز لسنّة العراق، فتوى في 28 نيسان/أبريل المنصرم تقضي بتحريم المشاركة في الانتخابات على الناخبين والمرشّحين على حدّ سواء. وقد ارتكز في رأيه هذا على أن الانتخابات السابقة لم تثمر أي شيء إيجابي لصالح سنّة العراق، متهماً من حثّ المواطنين على المشاركة باستغلال هؤلاء سياسياً أو بخداعهم نتيجة الجهل. وقد قامت جماعات من تنظيم الدولة الإسلاميّة في العراق والشام (داعش) بتوزيع مناشير في المناطق السنيّة قبل أسبوع واحد من الانتخابات، جاء فيها أن "الناخب والمنتَخب هما خارجان عن الدين الإسلامي، وكفار يساعدون على إقامة دولة صفويّة، وبذلك هم بالنسبة لنا أهداف مشروعة وأفواه بنادقنا موجّهة على رؤوسهم".
لكن في المقابل، اتفقت غالبيّة المراجع الدينيّة السنيّة على وجوب المشاركة في الانتخابات، بل وحرّمت التخاذل عن المشاركة فيها، لما سيخلفه ذلك من أضرار أكبر مما قد تخلّفه المشاركة.ومن هؤلاء، الشيخ عبد الكريم زيدان المراقب العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين في العراق والشيخ أحمد الكبيسي رجل الدين العراقي البارز وآخرون.
وأظهرت الإحصائيات نسبة جيّدة من المشاركة في المناطق السنيّة، على الرغم من الصعوبات والتهديدات الأمنيّة وعدم إمكانيّة إجراء الانتخابات في مناطق عدّة من محافظة الأنبار. وقد أعلنت المفوضيّة العليا المستقلة للانتخابات أن نسبة المشاركة في العراق بشكل عام بلغت 59% من مجمل عدد الناخبين وأكثر من 70% من الذين تمكّنوا من الحصول على البطاقة الإلكترونيّة التي تؤهّل الناخبين للمشاركة. وفي الأنبار، بلغت النسبة بالتحديد 30%.
أما بالنسبة إلى توجهات الناخبين، فقد أظهرت تقارير أوليّة عديدة عن عمليّة فرز الأصوات، تنوعاً واسعاً. وقد أصبح من المؤكد أن لا إمكانيّة لتشكيل حكومة أغلبيّة سياسيّة لصالح ائتلاف دولة القانون، بحسب ما كان يقول رئيس الوزراء المنتهية صلاحيته نوري المالكي. كذلك أصبح من شبه المؤكد أن المالكي لا يملك أي حظوظ لترؤس الحكومة لولاية ثالثة، وهذا بدوره سيساعد في ترسيخ الديمقراطيّة في بلد ما زال حديث العهد في هذا المجال بعد دكتاتوريّة استمرّت طويلاً.
وقد ظهر لدى الناخب العراقي ميل كبير نحو الاختيار بحسب البرامج السياسيّة للمرشّحين وليس فقط وفقاً للانتماءات الطائفيّة والعرقيّة. فتوزّعت الأصوات الشيعيّة وتلك السنيّة على قوائم متعدّدة، بالإضافة إلى بروز قوائم غير دينيّة جمعت أصواتاً من كل الطوائف العراقيّة. وهذا يعني خفض مستوى التخندق الطائفي لصالح الانتماءات السياسيّة، الأمر الشائع في الديمقراطيات المستقرّة.
كذلك، ظهر لدى الناخب العراقي ميل كبير نحو البرامج المدنيّة، بعيداً عن الشعارات القوميّة والطائفيّة. وقد ظهرت القوى المدنيّة لأوّل مرّة في تاريخ الانتخابات العراقيّة بشكل تحالف واضح المعالم، تحت عنوان "التحالف المدني الديمقراطي". وقد حصد التحالف ما بين ثمانية إلى 13 مقعداً بحسب التقارير الأوليّة. وهو رقم كبير إذا ما أخذنا في عين الاعتبار حجم التحالف وإمكانياته المتواضعة. كذلك، فإن الكتل الإسلاميّة الكبرى مثل المجلس الأعلى الإسلامي العراقي بقيادة عمّار الحكيم، اتجهت نحو الشعارات المدنيّة بدلاً من تلك الدينيّة. فاتخذ المجلس الأعلى "المواطن" عنواناً وشعاراً لكتلته وطرح برامج مدنيّة. كذلك الحال وإن بدرجات متفاوتة بالنسبة إلى الكتل الأخرى، التي وضعت الخدمات والبرامج المدنيّة في أولوياتها الانتخابيّة.
وبالنسبة إلى العلاقة ما بين الدين والسياسة، فقد تمسّكت المراجع الدينيّة بمعظمها بالحباد وبعدم التدخّل المباشر لصالح جهة ضدّ أخرى، على الرغم من ظهور مخالفات من قبل بعض رجال الدين غير المؤثّرين في الشارع العراقي.
أما لجهة المخالفات والانتهاكات، فلم تسجّل نسبة عالية منها في هذه الانتخاباتّ قد تؤدّي إلى التشكيك في نتائجها. بل تمّت العمليّة الانتخابيّة تحت إشراف منظمات دوليّة ومحليّة عديدة، وفقاً للمعايير الدوليّة. وهذا ما أكّده ممثّل الأمين العام للأمم المتحدة في العراق نيكولاي ملادينوف قائلاً إن "الانتخابات النيابيّة العامة في العراق أجريت مطابقة للمعايير الدوليّة، وإن العراقيّين أثبتوا تفانيهم في سبيل حقّهم في التصويت". ويعدّ هذا مهماً جداً لجهة أن هذه الانتخابات البرلمانيّة هي الأولى التي تجرى منذ انسحاب القوات الأميركيّة من العراق في العام 2011، بالإضافة إلى أن تخوفات كبيرة كانت قد طرحت سابقاً بخصوص نزاهتها واحتمال التزوير فيها أو تأجيلها.
ويبقى أن النتائج الإيجابيّة المذكورة كلها والمصحوبة بالتفاؤل مرهونة بكيفيّة عمل المفوضيّة في ما يخصّ عدّ الأصوات والإعلان عنها سريعاً، إذ من شأن ذلك أن يمنع التشكيك في النتائج ويحول دون السماح للكتل الكبرى بالتأثير في النتائج بطرق مختلفة. كذلك، فإن مشهد التحالفات المستقبليّة سيظهر مدى قابليّة الأحزاب السياسيّة العراقيّة لاستثمار النتائج الإيجابيّة لهذه الانتخابات أو استغلالها لمصالحها الفئويّة ومن ثم أخذ البلاد إلى تدهور أكبر مما نحن عليه اليوم.