اظهرت القرارات العشوائية وغير المدروسة للحكومة العراقية خلال السنوات الاخيرة ان هناك خلل في تقييم الوضع بادوات علمية وضعف في الجانب التخطيطي والاستراتيجي. فقد حدثت العشرات من ملفات الفشل في مشاريع الحكومة العراقية في مختلف مجالاتها الأمنية، السياسية والخدمية.
ففي الجانب الأمني، ما زال العراق يواجه تحدياً كبيراً حيث مسلسل التفجيرات مستمرة في المدن العراقية دون حصول أي تحسين يذكر! هذا رغم إتخاذ خطط مختلفة من وضع السيطرات والجدران الكونكريتية واستخدام أجهزة السونار الى عمليات الأنبار الأخيرة والتي لم تحدث إنجازاً في ضبط الوضع الأمني لحد الآن.
وقد ثبت الفشل الذريع لبعض تلك الخطط، أشهرها ما حدث بخصوص ملف أجهزة السونار او ما تعرف باسم "آی دي إي 651". فقد صرفت الحكومة العراقية 85 مليون دولار لتلك الأجهزة على أن يكون سعر كل منها 40 الف دولار ليثبت لاحقاً بأنها ليست سوى خدعة او على أفضل التقادير دمية للأطفال؛ حيث أوقفت الحكومة البريطانية عمل الشركة المنتجة "آي تي اس سي" وأحالت صاحب الشركة ومصنع الجهاز "جيم مكورميك" الى التحقيق الجنائي عام 2010. والمفاجأ أن الحكومة العراقية مستمرة في استخدامه لحد الآن دون ايجاد بديل آخر له. وما يثبت عدم دراسة الموضوع من قبل الحكومة العراقية مسبقاً أن أجهزة مشابهة لهذا السونار قد ثبت سابقا فشلها من قبل مؤسسات معتمدة عالمياً مثل ما نشره مكتب التحقيقات الفيدرالي الامريكي (FBI) عام 1995 و1999 وأيضا ما نشرته مختبرات سانديا نشنال (Sandia National Laboratories) عام 2002 بخصوص أجهزة مشابهة أخرى.
وفي نموذج آخر، شنّ رئيس الوزراء العراقي هجومه ضد الارهابيين في محافظة الأنبار نهاية العام الماضي محدداً اسبوعا واحدا بأن التفجيرات الإرهابية في مدن الوسط والجنوب تنطلق من مدن الأنبار. هذا في حين أن العمليات قد استمرت أكثر من ستة أسابيع، والتفجيرات ما زالت مستمرة في بغداد والمدن العراقية الأخرى. ورغم أن رئيس الوزراء قد رفض مبادرة السيد عمار الحكيم للأزمة في الأنبار والتي قدمت مجموعة مترابطة من الحلول الأمنية والسياسية والإقتصادية في الثامن من كانون الثاني 2014، ولكنها عاد ورحّب بمبادرة مشابهة لذلك قُدّمت من قبل الحكومة المحلية في الأنبار في الخامس من فبراير هذا الشهر.
وفي الملفات الخدمية هناك عشرات الأمثلة التي يمكن الأخذ بها لإظهار أن القرارات الحكومية لم تنطلق من دراسات علمية واستشارات تخصصية من قبل الخبراء المرتبطين بالمواضيع المعنية. وأشهر تلك الملفات هو الكهرباء الذي صرفت الحكومة عليه مبالغ كبيرة جدا لحد الآن دون الوصول الى النتائج المتوقعة، وما زالت أزمة الكهرباء مستمرة.
وفي كل مرة تتعامل الحكومة مع ما ينكشف من فشل مشاريعها بشكل اعتباطي وانفعالي، مستندة بتبريرات عامة تكررها بشكل مستمر مثل الوضع الأمني والآثار المتبقية من النظام السابق وغير ذلك مما يظهر ضعف التحليل العلمي والمهني لدى أصحاب القرار. والأخطاء ما زالت مستمرة دون أن تقوم المؤسسات الحكومية بالإستعانة بالخبراء والمتخصصين لدراسة وتقييم خططها ومشاريعها غير الناجحة والمحاولة لتجنب الأخطاء في المستقبل. وهكذا لا يظهر تحقيق جاد لمعرفة المقصرين من أجل استبعادهم او عقوبتهم إن استوجب ذلك.
هذا في حين ان الدول الناجحة تخصص اهتماما بالغا للمراكز الاستشارية الحكومية منها وغير الحكومية وتقوم بدعمها باشكال مختلفة للحصول على آرائها وتقييماتها التخصصية والمهنية. وهناك محاولات مستمرة لربط الجامعات بمؤسسات إتخاذ القرار عبر دعم رسائل وبحوث في مواضيع محددة ومرتبطة بعمل تلك المؤسسات او تخويل مراكز البحث في الجامعات لتقييم مشاريع الدولة او التخطيط لها وغير ذلك مما لا نشاهد أي منها في العراق.
ويرجع أحد الأسباب الرئيسية لهذا الوضع الى إستبعاد طبقة التكنوقراط من مراكز اتخاذ القرار في ظل التقسيم الطائفي للسلطة. هذا يصحّ بشكل أكبر حين نلاحظ النظرة السلبية للأحزاب الدينية في السلطة تجاه الشخصيات التكنوقراط والتي تنتمي الى التيارات العلمانية والمدنية غالباً.
كما أن الاتجاه نحو انتاج دولة المؤسسات في العراق بديلا عن التقسيم الطائفي السائد سيساعد على تحسين الوضع، حيث إن الأنظمة الناجحة في العالم تتكون من مؤسسات مختلفة يديرها أصحاب الإختصاص دون أن تتأثر كثيراً بالتغييرات السياسية في السلطة. وعليه إن التغييرات السياسية تنحصر بطبقة محددة من هرم السلطة لا تتعداها لتشمل المراكز والمؤسسات التخصصية والمهنية للدولة.
وهذا ما يبعد حصوله في العراق على الأقل في السنوات القادمة القريبة في ظل الصراع الطائفي القائم والذي يحتم على الأطراف المشاركة الى تقسيم المناصب والمواقع على أساس الإنتماءات الطائفية والسياسية لا على أساس تواجد الشروط والخصوصيات المهنية اللازمة.