انتهى مؤتمر جنيف-2، لكن لم يحزم أحد أمتعته. ويتردّد أن الأميركيّين يستعدّون للمكوث فترة طويلة عبر توقيع عقود لاستئجار منازل بهدف الإقامة فيها، وذلك في واحد من المؤشّرات الكثيرة عن جهود حثيثة تُبذَل من أجل أن يقود جنيف-1 وجنيف-2 إلى ما يُسمّى "عمليّة جنيف" التي من شأنها أن ترسم مساراً نحو السلام في سوريا.
لقد استقطب مؤتمر جنيف-2 الاهتمام الدولي. مراسلون، وأدعياء من مختلف الأنواع والأشكال، وأشخاص نصّبوا أنفسهم خبراء، ومستشارون إعلاميّون يتقاضون مبالغ طائلة.. جميعهم مشاركون في اللعبة، ناهيك بنجوم العرض أي الوزراء والموفدين الرسميّين المنتمين إلى مختلف الأطراف.
من السهل والمغري تركيز الانتباه على هذه اللقاءات المعدّة مسبقاً التي تقدّم على نحو لا يمكن إنكاره مسرحيّة سياسيّة آسرة للبعض. لكن على غرار لعبة "الكشاتبين"، يكاد يستحيل الفوز في السيرك السياسي الدائر في جنيف. والعمل الجدّي يحصل في الكواليس، في أي مكان تقريباً خارج الإطار الذي تُسلَّط عليه الكاميرات.
كما ورد في عمود "الأسبوع في نشرة" على موقع "المونيتور" مؤخراً، تتفاقم الأزمة ويصبح التهديد الذي يستهدف المصالح الأميركيّة ملموساً أكثر. ويلفت مراقبون مطّلعون إلى أن اللاعبين الأساسيّين في الدبلوماسيّة كانوا موجودين فعلاً في جنيف، إنما ليس على مرأى من الرأي العام. المسؤولون الغربيّون والسفراء والمبعوثون الأمنيّون الموثوق بهم من قبل الرئيس السوري بشار الأسد هم أبطال هذه المسرحيّة التي تؤدّى في الكواليس، لا الوفود الرسميّة التابعة لأي من الأفرقاء السوريّين. فيتحرّك الدبلوماسيّون السوريّون ومنهم وزير الخارجيّة المحنّك وليد المعلّم على الدوام، وفقاً لسيناريو من إعداد عناصر في الأجهزة الأمنيّة نافذين ومجهولي الهويّة. أما مجموعات المعارضة "الرسميّة" - التي تجد في "منابر القوّة" بيئتها الطبيعيّة وليس في اللقاءات خلف الأبواب الموصدة حيث يحاول الدبلوماسيّون التخفيف من حدّة التأزّم - فهي ليست مطلقاً جزءاً من هذه الأحداث التي تدور في خلفيّة المشهد.
الخبر المحزن من جنيف-2 هو الفشل الذي كان متوقّعاً، للجهود الهادفة إلى الحصول على الموافقة السوريّة على التخفيف من وطأة الكارثة الإنسانيّة في حمص. لكن تحقيق مثل هذه الأهداف ليس ممكناً في إطار مؤتمر جنيف. طوال أشهر، كان مفتاح التقدّم، أياً كان هذا التقدّم، يتبلور بعيداً عن شاشات المراقبة - من خلال تفاهمات محليّة بين القادة العسكريّين، أو سماح الموظفين الحكوميّين بعمليات الإغاثة المحليّة أو تأمين الخدمات الأساسيّة. وهذه صفقات لمرّة واحدة، غالباً ما تُطبَّق من دون موافقة صريحة أو حتى إشراف. إنها غير شفافة وعرفيّة وغير رسميّة، ويتعذّر على الأطراف الخارجيّة دفع الأفرقاء نحو التوصّل إلى مثل هذه الاتفاقات. لكن هذه الأساليب نموذج عن الطريقة التي تتمّ بها الأمور. وهكذا تحقَّق النجاح الأول في إدخال المؤن إلى المحاصرين من قبل النظام في مخيّم اليرموك للاجئين الفلسطينيّين، حتى فيما كانت الوفود تتشاجر حول حمص في جنيف من دون التوصّل إلى أي نتيجة.
هذه "النجاحات"، على الرغم من أهميّتها، ليست كافية لوحدها من أجل إطلاق مسار دبلوماسي يقود إلى إنهاء القتال. لكنها تقدّم أدلة هشّة تظهر أنه ما زال بالإمكان التوصّل إلى أسس مشتركة بين السوريّين وتوظيفها من أجل تحقيق إنجازات ملموسة، ولو كانت محدودة.
بيد أن الهوّة التي يحفرها السوريّون لأنفسهم تزداد عمقاً يوماً بعد يوم. وقد أشار عبدالله الدردري الذي كان سابقاً مسؤولاً اقتصادياً كبيراً في سوريا ويعمل حالياً مع الأمم المتحدة في بيروت في مداخلة له في واشنطن في 31 كانون الثاني/يناير الماضي، إلى أن سوريا خسرت في "أفضل الأحوال" عقداً من التنمية الاقتصاديّة. لكنه شدّد على أنه بالإمكان التعويض عن هذه الخسارة. إلا أن مراقبين آخرين يبدون تشاؤماً أكبر بكثير في تحليلهم للأضرار التي لحقت بسوريا، ويتوقّعون أن تمرّ أجيال تلو الأجيال قبل أن يستعيد اقتصاد البلاد ما كان عليه قبل ثلاث سنوات.
ورأى الدردري أنه لا يجوز للسوريّين أن ينتظروا انقضاء هذه المرحلة كي يباشروا بعمليّة إعادة البناء، وليس فقط بناء الحجر الذي تهدّم إنما أيضاً والأهمّ إعادة بناء قدرة البلاد المتصدّعة على العمل من أجل الخير العام. وحتى مع استمرار القتال، من الضروري توسيع "المساحة المشتركة" من خلال دعم سلامة الأراضي السوريّة والمجتمع الأهلي وإنهاء النشاط المسلّح على مراحل أو الحدّ منه والاتفاق على مرحلة انتقاليّة تفضي إلى هيكليات حكم توافقيّة، بما ينسجم مع الجهود التي يقودها مبعوث الأمم المتحدة والجامعة العربيّة الأخضر الإبراهيمي.
وكان وزير الخارجيّة الأميركيّة جون كيري قد صرّح في مقابلة مع قناة "العربيّة" في دافوس في 23 كانون الثاني/يناير الماضي أن "الجميع مستعدّون لحماية العلويّين. الجميع مستعدّون لحماية مؤسسات الدولة السوريّة. لا أحد يتكلّم عن تدمير المؤسسات. يريد الناس أن تكون الحكومة كلاً متكاملاً. يريدون أن تحافظ سوريا على وحدتها وتماسكها وطابعها العلماني، وأن تكون تعدّدية وتحمي جميع الأقليات. (...) الأساس هنا هو أن يجد الشعب الأشخاص المناسبين في سوريا - وهم موجودون - الذين يحظون باحترام الجميع ويتمتّعون بخبرة في الشؤون الحكوميّة وفي قطاع الأعمال، أشخاصاً معروفين ومحترمين وقادرين على النظر أبعد من الانقسامات المذهبيّة والعمل على معالجة الجراح السوريّة".
يتردّد أن الإبراهيمي يدعم هذه الجهود، وقد اضطلعت الأمم المتحدة بدور ريادي في تعبئة السوريّين من مختلف الأطياف للمشاركة في الحوار الذي يمكن القول بأن حدوثه في الأصل هو أهم إنجاز على الإطلاق.
لكن الإبراهيمي ما زال يعتقد أن التوصّل إلى اتفاق شبيه باتفاق الطائف الذي وضع حداً للحرب الأهليّة اللبنانيّة هو السبيل الأضمن لإنهاء النزاع في سوريا. وتؤدّي السعوديّة وإيران دوراً أساسياً في هذا الإطار. إلا أنه ينبغي على السوريّين الذين برعوا في التعاون على تدمير بلادهم، أن يبدأوا الآن بالعمل معاً من أجل إعادة إعمارها.