من يزور الأردن، ينبغي ألا تفوته زيارة مدينة البتراء الأثريّة التي تبعد نحو 250 كيلومتراً جنوب العاصمة عمّان. فهي عنصر الجذب السياحي الأول في الأردن، وقد فازت بالمركز الثاني في المسابقة العالميّة لعجائب الدنيا السبع الجديدة.
والبتراء مدينة تاريخيّة تقع في وادي موسى نسبة إلى النبي موسى وفيها الينابيع السبعة التي تفجّرت عندما ضرب موسى بعصاه الصخر. هي مدينة كاملة منحوتة في صخر ورديّ اللون تمتدّ على 40 كيلومتراً مربعاً، بناها العرب الأنباط في العام 400 قبل الميلاد وجعلوا منها عاصمة لدولتهم التي اعتُبرت آنذاك من أعظم الحضارات في العالم.
ما يميّز البتراء ليس فقط آثارها النبطيّة والرومانيّة والبيزنطيّة، بل سكانها البدو أو "البدول" الذين سكنوا فيها منذ مئات السنين. فهم إحدى قبائل الحويطات المقيمة تاريخياً في البتراء، وقد استعملوا أراضيها للزراعة ولرعي ماشيتهم وسكنوا كهوفها احتماءً من برد الشتاء. يزعم البدول أنهم أحفاد الأنباط وأنهم ورثوا البتراء عنهم وأنهم ظلوا يقيمون في كهوفها حتى آواخر القرن العشرين. إلا أن بعض الباحثين يعتقدون أن البدول ليسوا أحفاد الأنباط ولكنهم عرب جاؤوا من مصر قبل قرنَين أو ثلاثة قرون وسكنوا البتراء.
إذاً، ظلّ البدو يسكنون في كهوف أو مغارات البتراء التي يسمّونها المُغر، حتى العام 1985 حين فرضت عليهم الحكومة الأردنيّة إخلاء المغارات والمواقع الأثريّة في المدينة ضمن مشروع رعته منظمة الأمم المتّحدة للتربية والعلم والثقافة "اليونسكو" للوموّلته الوكالة الأميركيّة للتنمية الدوليّة (USAID)، بهدف حماية هذه المواقع التاريخيّة والأثريّة من التخريب البشري. وقد أقامت الحكومة لهم بلدتَين، بلدة وادي موسى التي انتقل إليها البدو في العام 1978 وبلدة أم صيحون التي انتقل إليها البدول في العام 1985. وقامت السلطات بإخراج نحو 250 عائلة من الكهوف بعدما أمّنت لهم منازل مجانيّة وكافة الخدمات الضروريّة كالكهرباء والماء والهواتف وغيرها في أم صيحون.
لكن أحد البدول الذين يسكنون في أم صيحون ويعمل في كافيتيريا في داخل مدينة البتراء، يقول لـ"لمونيتور" إنه ليس صحيحاً أن الحكومة أجبرت السكان على مغادرة كهوف البتراء بل ذلك تمّ بناءً على طلبهم، بسبب رغبتهم في التطوّر والحصول على التعليم والعناية الصحيّة والخدمات الأخرى من مياه وكهرباء وطرقات. ويشير المصدر نفسه إلى استمرار وجود نحو 50 عائلة مقيمة في الكهوف.
من جهته يشير إبراهيم وهو من عشيرة أخرى من البدو وليس من البدول ويملك فندقاً في وادي موسى، إلى أن إخلاء البتراء من البدول قد فرض قسراً عليهم من قبل السلطات، نافياً وجود عائلات ما زالت تسكن في الكهوف.
أما شريكه محمد فيوضح لـ"المونيتور" أن بعض العائلات عادت للسكن في الكهوف، مشيراً إلى تزايد عدد سكان البدول في أم صيحون التي لم تعد تتّسع لهم وهي غير قابلة للتوسّع الأفقي ولا العامودي. ويلفت إلى أن أراضي أم صيحون هي ملك لعشائر وادي موسى التي ينتمي إليها وقد منحتها الحكومة للبدول من دون تعويض أهالي وادي موسى ومن دون منح البدول أي ملكيّة قانونيّة للأراضي.
يشير إبراهيم إلى أن هؤلاء البدول قد تطوّروا كثيراً، وبدلاً من العيش في الكهوف والاعتماد على الإبل والأغنام والزراعة في أكلهم وشرابهم ونقل مياه الينابيع على الحمير والبغال إلى الكهوف، انتقلوا إلى العيش في منازل وفيلات في بلدة أم صيحون. وأصبح الكثيرون منهم أثرياء جراء العمل في البتراء، في تجارة الهدايا أو في نقل السياح على الأحصنة والجمال والحمير يومياً. فالبدول يحتكرون التجارة وخدمات السياح في البتراء، ولا يقبلون مشاركة غيرهم لهم فيها، رافضين تدخّل وزارة السياحة لتوزيعهم على نقاط محدّدة لعرض بضائعهم. وقد طرحت وزارة السياحة عليهم سابقاً التجمّع في سوق تجاري أو سوقَين أو ثلاثة في داخل البتراء لخدمة السياح، فرفضوا مصرّين على أن يقوم كلّ واحد منهم بتجارته منفرداً.
وقد عانت السلطات سابقاً من عدم إرسال بعض البدول أولادهم إلى المدارس على الرغم من إنشاء مدرسة في قريتهم أم صيحون، مفضّلين إرسالهم للعمل في البتراء في التجارة أو في خدمات السياح. لكن اليوم يبدو أن معظمهم يرسلون أولادهم إلى المدارس وبعض هؤلاء يرتاد الجامعات. لكن البعض يشير إلى ظاهرة التسرّب المدرسي لدى أطفال القرية والتي تساهم فيها انتشار ظاهرة عمالة الأطفال في المواقع السياحيّة، نتيجة غياب الوعي لدى هذه الأسر لتوجيه أبنائها نحو العمل في القطاع السياحي وإهمال الجانب التعليمي.
وفي خلال التحدّث إلى الشباب والأولاد والفتيات العاملين في التجارة وخدمات السياح في البتراء، تسمع البدول من النساء والرجال بخاصة الشباب والشابات والأطفال يتحدّثون اللغات الأجنبيّة خصوصاً الإنكليزية التي يتكلمونها بلكنات واضحة قريبة من اللهجتَين البريطانيّة والأميركيّة. ويلفت فتى لا يتجاوز عمره 15 عاماً إلى أنه يتكلم الإنكليزية وقليلاً من الفرنسيّة والأسبانيّة. ويقول إنه تعلمها من اختلاطه بالسياح ومن مرافقة الأدلاء السياحيّين.
ويشكو البدول من صغر قرية أم صيحون التي تعاني الاكتظاظ السكاني، فيما تهدّد عائلات منهم بالعودة إلى مساكنهم القديمة في المغر التاريخيّة في داخل البتراء احتجاجاً على عدم استجابة إدارة إقليم البتراء لمطالبهم بتوسيع حدود رقعة قريتهم. كذلك يشكون من صغر منازلهم التي لا تتّسع لعائلاتهم التي تكبر ولأولادهم الذين يريدون الزواج وتأسيس أسر لهم. ويقولون إن السلطات لا تمنحهم أراضٍ يزرعونها ويعيشون منها ولا تسمح لهم بإقامة المشاريع أو ببناء فنادق سياحيّة في القرية.
وتضمّ قرية أم صيحون نحو ثلاثة آلاف نسمة ضمن وحدات سكنيّة صغيرة الحجم تسمى "إسكان البدول". وتلك الوحدات لا تحتمل إضافة طبقات فوقها وليس بإمكانهم التوسّع في ظلّ محدوديّة مساحة الأراضي. ويحمّل سكان القرية الحكومة مسؤوليّة تداعيات الاكتظاظ السكاني، باعتبار أن رؤيتها في مطلع ثمانينيات القرن الماضي لم تأخذ في الحسبان الزيادة السكانيّة المستقبليّة والحاجة الملحة للتوسّع العمراني، عندما أنشأت لهم هذه المساكن. وهم يطالبون بالإسراع في تنفيذ أوامر الملك عبدالله الثاني التي أطلقها في خلال زيارته الأخيرة لمدينة البتراء، لإنشاء مشروع مركز تنمية مجتمع محلي في القرية بتكلفة 600 ألف دينار أردني.
من جهته، ينتقد سائق أجرة من سكان المنطقة في حديث إلى "المونيتور" أداء سلطة إقليم البتراء من حيث عدم تقديم الخدمات لمواطني المنطقة، من إقامة مشاريع تنمويّة وخلق فرص عمل وإعادة تعبيد الطرقات وتأهيلها.
أما إبراهيم مالك الفندق، فيشكو من تراجع الحركة السياحيّة في منطقة البتراء بسبب الحرب في سوريا والأزمة في مصر. ويقول إن السياح الأجانب كانوا يأتون إلى مصر أو سوريا ومنهما ينطلقون إلى الأردن أو العكس. أما اليوم فبسبب الحرب السوريّة وعدم الاستقرار الأمني في مصر والمنطقة، فإن السياح يذهبون إلى دول أخرى أكثر استقراراً في شرق آسيا وأوروبا.
وكانت السلطات المحليّة قد أعلنت أنها أعدّت مخططاً سيتضمّن مقترحات للتوسّع السكاني لـستة مجتمعات محليّة تقع ضمن حدود إقليم البتراء، ومنها قرية أم صيحون حيث سيتمّ تطبيقها في خلال سبع سنوات مقبلة لعلاج كلّ المشاكل التي يعاني منها سكان القرية.
فإذا كان البدو هم عادة الرحل الذين يتنقلون ما بين المناطق لرعي القطعان بحثاً عن الماء والطعام لها، فإن عدداً قليلاً من بدو الأردن ما زال يمارس الترحال من الجنوب إلى الشمال والعكس. لكن معظم البدو كالبدول، أصبحوا حضراً واستقروا وامتهنوا الزراعة والتجارة وغيرهما من المهن، لكنهم احتفظوا بعاداتهم وتقاليدهم البدويّة والعشائريّة.
وسط مشكلات "البدول" ما بين البتراء وأم صيحون، تلفت انتباهك وأنت تصعد إلى أحد المواقع الأثريّة امرأة تضع ملصقاً كبيراً بالقرب من متجرها للهدايا. على الملصق، تظهر صورتها على غلاف كتاب من تأليفها بعنوان "تزوجت بدوياً". إنها النيوزلنديّة مارغريت فان غيلدرمالسن التي جاءت إلى البتراء سائحة في العام 1978 فوقعت في حبّ أحد البدول الذي كان يملك متجراً للهدايا في البتراء فتزوجته وعاشت معه في كهفه لمدّة سبع سنوات. غيلدرمالسن أو "أم رامي" تتحدّث إلى "المونيتور" عن تجربتها وتخبر أنها عاشت مع زوجها بين العامَين 1978 و1985 في كهف فتعلمت الطبخ على الحطب وخبز أرغفة الشراك وجرّ الماء من الوديان على الحمير إلى الكهف.
ومارغريت التي أنجبت ثلاثة أولاد صبيَين وبنت، توفي زوجها قبل 12 سنة. هي تؤكّد أنها كانت سعيدة في حياتها معه. وعن قدرتها على ترك الحياة المدنيّة الحديثة وتحمّل العيش في كهف، تقول أم رامي إن الحياة كانت أسهل لأنها لم تكن تكلف شيئاً. فكلّ شيء كان متوفراً ومن دون أعباء النفقات، إذ إن السكن مجاني ولا فواتير للمياه والكهرباء والطعام والشراب من "الحلال" أي من الأغنام والماعز التي يربونها.
وتوضح أم رامي أن أولادها أكملوا تعليمهم، فالأكبر رامي درس الهندسة الإلكترونيّة في أستراليا لكنه قرّر العودة إلى البتراء ليعمل في السياحة بدلاً من الهندسة. أما ابنتها فهي تعمل في أكاديميّة الملك في الأردن بينما تابع الابن الأصغر مروان دراسته في الإعلام والسينما وهو يعمل في مجال السينما في دبي.