الكل يرتقب في بيروت حقيقة الموقف السعودي من "الحلّ الكيميائي" الذي توصّلت إليه واشنطن وموسكو حول سوريا، لاستكشاف المرحلة المقبلة لبنانياً على الأقل. على الرغم من أن موقف الرياض لا يملك أي تأثير مباشر على التسوية التي أقرّها كيري ولافروف في جنيف، إلا أنه تظلّ للسعوديّة قدرة على التأثير غير المباشر على الساحة السوريّة، عبر تدخّلها في أماكن أخرى عدّة. ومنها العراق، حيث حرب التفجيرات المذهبيّة مستمرّة باطّراد دموي كبير. ومنها "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السوريّة"، برئاسة أحمد الجربا المحسوب على الرياض. ومنها طبعاً لبنان، حيث الصراع السياسي ما بين حلفاء الرياض وحلفاء بشار الأسد بات يتناول مختلف تركيبة الحكم اللبناني، بدءاً بالحكومة المعطّلة منذ 22 آذار/مارس الماضي وصولاً إلى استحقاق انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة ضمن مهلة دستوريّة محدّدة ما بين 25 آذار/مارس و25 نيسان/أبريل 2014.
أصدقاء السعوديّة في بيروت والمتمثّلون في شكل رئيسي بفريق [رئيس الحكومة السابق سعد] الحريري، يعترفون أن لا معلومات دقيقة لديهم حول الاتفاق السوري ولا معطيات عندهم من مصادرها الأصليّة حول أبعاد التسوية وما تشمله. حتى أن نائباً رئيسياً في كتلة الحريري النيابيّة، كشف لموقعنا أن اللامبالاة السعوديّة حيال الوضع اللبناني الراهن، شبه كاملة. ولم تنفع زيارات وفود عدّة من فريقه إلى السعوديّة ولقاءات متكرّرة مع مسؤولي المملكة، في تعديل هذا الانكفاء السعودي عن الملف اللبناني مباشرة. لكن سياسيّين آخرين ضمن الفريق الحريري نفسه، يتخطّون هذه العقدة السعوديّة، ليذهبوا مباشرة إلى ما يسمّونه "الاطمئنان إلى الموقف الغربي عموماً والأميركي خصوصاً". فهم يعتقدون أن واشنطن لا يمكن أن تكون قد خرجت خاسرة من هذه المواجهة السوريّة. وأياً تكن مظاهر التسوية الآنيّة، فهي بلا شك تتضمّن نقاطاً غير معلنة تضمن مصالح واشنطن في المنطقة، وبالتالي مصالح حلفائها. حتى أن بعض هؤلاء يذهب في التحليل بعيداً. فيعتبر أن مجرد حصول اتفاق أميركي–روسي حول موضوع خلافي، وحول مسألة عنفيّة تسليحيّة وغير تقليديّة، يعني أن هذا المناخ من الانفتاح الدولي وأجواء الاتفاق العالمي لا بد من أن ينعكس على كل الملفات الأخرى وأن ينسحب على مختلف القضايا المماثلة. فيرى هؤلاء أن التسوية الكيميائيّة في سوريا، لا بدّ من أن تتمدّد لتشمل تسوية نوويّة في إيران، ومن ثم تسوية لسلاح حزب الله في لبنان. وأياً كانت الآجال الزمنيّة لأجندة من هذا النوع، لا بدّ في النهاية من أن تنعكس إيجاباً على لبنان وأن تحقّق مطالب الفريق الحليف للرياض في بيروت لجهة نزع سلاح التنظيم الشيعي وإخراج لبنان من تحت "النفوذ السوري-الإيراني".
في المقابل يتوّقف خصوم الرياض في بيروت باهتمام شديد عند الموقف السعودي المتحفّظ جداً حيال التسوية الأميركيّة-الروسيّة حول سوريا، ويتساءلون: لو أن المملكة مطمئنّة إلى موقعها ودورها في هذه التسوية، هل كانت لتقابلها بهذا الموقف المتردّد الذي كاد يبلغ حدّ السلبيّة؟؟ ينطلق خصوم السعوديّة من هذا التساؤل ليرسموا مشهداً من الخسائر السعوديّة الناتجة عن تسوية جنيف، على ثلاثة مستويات:
أولاً، على المستوى السوري البحت. ذلك أنه على الرغم من كلّ التبريرات التي أعطيت للتسوية وإيجابياتها، يظلّ واضحاً أنها شكّلت خيبة أمل كبيرة للقوى الخليجيّة التي راهنت على ضربة أميركيّة تسقط حكم الأسد وتوصل معارضيه إلى السلطة في دمشق. وهذا بالحد الأدنى كاف لاعتبار أن السعوديّة خسرت نقاطاً واضحة في هذه الجولة. وهذه النتيجة بدت واضحة في المواقف السلبيّة حيال التسوية، التي صدرت عن قوى سوريّة معارضة وعن حلفاء السعوديّين في بيروت (ونذكر مقال لرئيس الحكومة الأسبق فؤاد السنيورة في مجلة "فورين بوليسي").
ثانياً، على المستوى الإقليمي. ذلك أن أجواء الانفتاح التي بدأت تظهر على خط واشنطن–طهران، لا بدّ من أن تنعكس سلباً على الدور السعودي وموقع الرياض إقليمياً. وأياً كانت النتائج المحتملة لهذه الانفتاح، يظلّ من المرجح أن يكون مولداً لخشية سعوديّة من أن يكون على حسابها. ويأتي ذلك خصوصاً وأن التناقض السعودي-الإيراني شبه مطلق، مذهبياً وسياسياً وجيوستراتيجياً في منطقة الخليج وكلّ الشرق الأوسط. وعلى الرغم من أن الرياض حاولت استيعاب هذه الأجواء بتوجيه دعوة إلى الرئيس الإيراني الجديد حسن روحاني لأداء مناسك العمرة في مكّة الشهر المقبل (تشرين الأوّل/أكتوبر) وبالتالي إجراء لقاءات مع المسؤولين السعوديّين، إلا أنه يظلّ واضحاً عدم ارتياح الرياض لكسر القطيعة على خطّ واشنطن–طهران. والخشية السعوديّة الكبرى في هذا المجال هي من أن تؤدّي التسوية السوريّة إلى تكوين "عدوّ مشترك" ما بين الولايات المتحدة وإيران، متمثلاً في ما بات يسمّى "التكفيريّين". ذلك أن هذه الجماعات التي باتت تشكّل عنواناً شاملاً لكلّ حركات التطرّف الإرهابي السنّي، يمكن أن تقدّم نقطة تلاق وتقاطع ما بين واشنطن وطهران الشيعيّة. وهو الدور الذي كانت قد استفادت منه الرياض السنيّة وأدّته منذ أحداث 11 أيلول/سبتمبر 2001، يوم قدّمت نفسها لواشنطن وللغرب على أنها المرجعيّة الإسلاميّة السنيّة المعتدلة، في مواجهة تنظيم "القاعدة" السنّي المتطرّف. غير أن أحداث سوريا أعادت جمع الرياض والجهاديّين السنّة في معسكر واحد، في مواجهة [الرئيس السوري بشّار] الأسد وحلفائه الشيعة من لبنان والعراق إلى إيران.
ثالثاً، على المستوى الدولي. ذلك أن التسوية السوريّة يمكن أن تكرّس ثنائيّة جديدة أميركيّة–روسيّة، في إدارة العديد من الملفات الدوليّة، على أقلّ تقدير في الشرق الأوسط. وهي ثنائيّة ترتّب على موقع السعوديّة ودورها في المنطقة تراجعاً واضحاً، مقارنة بحقبة تفرّد حليفها الأميركي في النفوذ والسيطرة والتحكّم بكلّ شؤون المنطقة وحكوماتها، في العقدَين الماضيَين. فكيف إذا حصل ذلك، في ظلّ كلام كثيف عن تراجع الاهتمام الأميركي بالشرق الأوسط وأزماته، وترجيح اتّجاه واشنطن أكثر فأكثر إلى تركيز اهتمامها على منطقة الباسيفيك...
في النهاية، صحيح أن تسوية ما قد تكون على طريق الإخراج في سوريا. لكنها تسوية يبدو وكأنها ستؤدّي إلى قيام خاسر ورابح في منطقة سوريا. إنها مفارقة أساسيّة، ترتبط بها حظوظ التسوية السوريّة نفسها واحتمالات ما بعدها.