المشهد في لبنان مثير للقلق. الدولة المركزيّة تتفكّك أوصالها وتنهار مقوّماتها السياديّة. مؤسّسات الجمهوريّة تتلاشى. مجلس النواب علّق جلساته منذ أشهر ثلاثة واكتفى بالتجديد لنفسه ودخل مرحلة سُبات عميق من المرجّح أن تستمرّ لشهور قبل أن يستفيق منها بعد فترة، ربما في أيار/مايو المقبل موعد انتخاب رئيس جمهوريّة جديد وفق الأصول الدستوريّة. فيكرّس مرّة أخرى عبر رفع الأيدي صفقة تكون قد أعِدّت له في الخارج، يتولّى إخراجها زعماؤه أي من كُلّفوا بتمثيل الطوائف "بإسم الشعب". أما الحكومة فمستقيلة منذ نحو نصف سنة ، تصرّف الأعمال على هوى وزرائها من دون حسيب ولا رقيب. والجمهوريّة معلّقة، لم يبقَ من أركانها سوى رئاستها التي تمثّل بثبات من يشغلها، صمودَ بلد.. وبإمكاناته المحدودة، محدوديّة قدرات بلد.. وبانفراده، عزلة بلد... بلد يرفض أن يموت وإن قوّضته قوى الأمر الواقع وأسَرته الصراعات الإقليميّة.
وآخر بدع قوى الأمر الواقع، هو ما درجت تسميته حديثاً الأمن الذاتي، إذ حلّت تلك القوى محلّ الدولة في أولى مهامها السياديّة ألا وهي حفظ الأمن. فأقامت الحواجز ونقاط التفتيش على الطرقات ، وهي لا تتوانى عن التحقيق وحتى عن التوقيف إذا لزم الأمر، وكلّ ذلك بذريعة غياب الدولة وعجزها متجاهلة أنها (القوى) هي من يقف حاجزاً أمام مسار بناء الدولة. ولعلّ أبلغ تعبير عن واقع هذا الحال وعن حلول الدويلة محلّ الدولة وتحوّلها بديلاً عنها، هو ما شهدناه في الضاحية الجنوبيّة لبيروت في خلال الفترة الماضية وفي أعقاب الانفجارَين الذين طالا العمق الشيعي -في بئر العبد والرويس- . حادثتان تلاهما انفجاران في طرابلس ، وذلك في سلسلة دمويّة أعادت إلى الذاكرة صور الحرب الأهليّة القاتمة بمآسيها وإلى الأذهان الدروس التي لم تُحفظ بعد على الرغم من سنين الحرب الطويلة. ولعلّ أهم تلك الدروس أنه في مجتمع قائم على التعدّد، وحدها الدولة الجامعة القائمة على العدل هي الضامن للأمن وللاستقرار، وكلّ سلاح غير سلاحها الشرعي يشكّل منذ البداية تهديداً لها وما يلبث مع الوقت أن يغدو تهديداً لنفسه.