قبل يومَين، في 23 تموز/يوليو الجاري، أصدرت محكمة فلسطينيّة أمراً برفع الحظر عن بضائع قامت الضابطة الجمركيّة بمصادرتها، تُنقَل من مستوطنة "بوركان" الصناعيّة باتجاه مدينة سلفيت شمال الضفة الغربيّة.
قرار القاضي ترك موظفي الضابطة الجمركيّة في حالة من الدهشة والغضب، لكنه أمر قضائي في نهاية الأمر يلزمهم بإرجاع بضاعة بعشرات آلاف الشواقل إلى صاحبها الفلسطيني. فعلّق أحد أفراد الضابطة ساخراً: "هذا هو القضاء!!!".
ومنذ أن أطلقت الحكومة الفلسطينيّة في حزيران/يونيو 2010 حملات متتالية لمكافحة منتجات المستوطنات الإسرائيليّة المقامة على الأراضي الفلسطينيّة المحتلة في العام 1967، وقد بدأت بوضع ملصق رمزي على بيت الرئيس محمود عباس يقول "هذا البيت خال من منتجات المستوطنات" قبل أن يشمل ذلك بيوت آلاف من المواطنين، تقوم الضابطة الجمركيّة يومياً بضبط بضائع مهرّبة من المستوطنات الإسرائيليّة تصل قيمتها السنويّة إلى ملايين الشواقل.
وقرار الإتحاد الأوروبي الأخير الصادر في 17 تموز/يوليو الجاري والقاضي بحظر التعاون أو استفادة المستوطنات الإسرائيليّة المقامة على الأراضي الفلسطينيّة المحتلة بما فيها القدس الشرقيّة من أي تمويل أوروبي ومنع تمويل أي فعالية أو مؤسّسة استيطانية، كان قد جاء تتويجاً لسنوات من الجهود الدبلوماسيّة الفلسطينية في الإتحاد الأوروبي بحسب ما أوضح الدبلوماسي السابق في السفارة الفلسطينيّة في بروكسل ماجد بامية لـ"المونيتور".
لكن القرار الأوروبي الأخير زاد من الجدال الداخلي الفلسطيني حول ما إذا كانت الجهود الفلسطينيّة الداخليّة رسمياً وشعبياً قد نجحت في مكافحة منتجات المستوطنات أم لا؟
وهذا السؤال يفتح جدالاً، فيه أرقام بملايين الشواكل، وتشكيك في الإرادة السياسيّة الفلسطينيّة في ما خصّ تطبيق قانون حظر منتجات المستوطنات ودعم المنتج المحلي، والأهمّ قضيّة انتماء ورغبة المواطن الفلسطيني بمحاربة الاستيطان.
وكانت الحملة الشعبيّة الأولى لحظر ومكافحة البضائع الإسرائيليّة، قد بدأها الناشط ومدير الإغاثة الزراعيّة في محافظة نابلس خالد منصور في العام 2008، وذلك وسط أجواء الحرب التي شنّتها إسرائيل على قطاع غزّة، وتحت شعار" بدنا نخسّر الاحتلال".
والحملة التي استهدفت جميع البضائع الإسرائيليّة بلا استثناء والتي لاقت في حينه إقبالاً غذّته أجواء الحرب الإسرائيليّة على القطاع، تبعها في حزيران/يونيو 2010 قرار من حكومة الدكتور سلام فياض يقضي بإطلاق حملة رسميّة لمقاطعة وحظر منتجات المستوطنات فقط، بسبب اتفاقيّة باريس الاقتصاديّة التي أبرمت في العام 1994 والتي تتحدّث عن تعاون اقتصادي بين الطرفَين.
والحملات الرسميّة التي استهدفت المواطنين والتجّار أثبتت جديّتها وقد ساندها قرار بإصدار قانون من قبل الرئيس محمود عباس في العام 2010. وتجدر الإشارة إلى أن الرئيس يصدر القوانين بشكل استثنائي وفي حالات الضرورة القصوى فقط، بسبب تعطل المجلس التشريعي منذ انتخابات العام 2006.
وقد أتت العقوبات التي نصّ عليها قانون "حظر ومكافحة منتجات المستوطنات" رادعة، بحيث يعاقب كل من يشارك أو يساهم في تداول أو توريد سلع أو خدمات من المستوطنات بالسجن لفترة تتراوح ما بين عامَين وخمسة أعوام وبدفع غرامة ماليّة لا تقلّ عن عشرة آلاف دينار أردني. وقد أعلن القانون ذاته عن تأسيس صندوق الكرامة الوطنيّة لمكافحة بضائع المستوطنات.
واستناداً إلى القانون، بلغت قيمة ما تمّت مصادرته وإتلافه من بضائع تمّ تهريبها ومصدرها المستوطنات، ما يزيد عن 60 مليون شيكل منذ العام 2010، بالإضافة إلى بضائع أخرى بالقيمة ذاته لم يتمّ إتلافها لعدم توفّر معدات فلسطينيّة مناسبة لذلك، بحسب ما أوضح مدير عام حماية المستهلك في وزارة الاقتصاد الوطني عمر قبها.
والضابطة الجمركيّة تصادر 90% من هذه البضائع على المداخل الرئيسيّة للمدن وتحوّل المتورّطين إلى القضاء. وقد أشار مدير عام الضابطة الجمركيّة غالب ديوان إلى "ضبط 817 طناً منذ حزيران/يونيو 2010 وحتى تموز/يوليو الجاري، وتحويل 185 قضيّة إلى نيابة الجرائم الاقتصاديّة".
لكن يبدو أن القانون لم يكن رادعاً بما فيه الكفاية، إذ تمّت مصادرة 72 طناً منذ مطلع العام الجاري وتحويل 15 قضيّة إلى النيابة الاقتصاديّة، أي أنه ما زال يُسجَّل إقبال شعبي وتجاري على بضائع المستوطنات.
وقد لفت خالد منصور إلى أن المستوى الرسمي يتعامل مع قضيّة مقاطعة المستوطنات بشكل موسمي، ما يفسّر غرق السوق الفلسطينيّة بمنتجات المستوطنات الزراعيّة من عنب وتمر وغيرهما.
ويجمع منصور ومصادر في الضابطة الجمركيّة على أن "ثمّة تهاوناً كبيراً في تطبيق قانون مكافحة منتجات المستوطنات من قبل المحاكم الفلسطينيّة".
وبحسب ما أفادت مصادر في المركز الإعلامي القضائي الفلسطيني "المونيتور"، فقد تمّت إدانة تسعة أشخاص فقط بجرائم تتعلّق بمكافحة منتجات المستوطنات منذ العام 2010 وحتى اليوم، وحكم عليهم بالسجن لمدّة ثلاثة شهور وبغرامة وصلت إلى ألفي دينار أردني.
ويرصد المراقبون للجهود الرسميّة ثغرات كبيرة في الجهود الرسميّة، أبرزها استثناء الحكومة في حملات المقاطعة مناطق استيطانيّة صناعيّة مثل "عطروت" المقامة على أراضي قلنديا جنوب مدينة رام الله، بذريعة وجود استثمارات فلسطينيّة فيها.
وقد أوضح منصور أن "المستوى الرسمي لم يقاطع أكثر المنتجات الإسرائيليّة رواجاً في السوق الفلسطينيّة، وهي الألبان "تنوفا" بذريعة أن مصنع الألبان موجود في تل أبيب".
وتابع ساخراً "مزارع الأبقار الإسرائيليّة التابعة لمصنع "تنوفا" موجودة في جنوب الخليل والأغوار الفلسطينيّة، أي أراضي 1967!!!".
كذلك، وجدت منتجات المستوطنات أيضاً طريقة للالتفاف على القانون الفلسطيني بإعادة تعبئة منتجاتها داخل إسرائيل ونقلها عبر المعابر مع السلطة الفلسطينيّة بطريقة رسمية، باعتبار أنها منتجات إسرائيليّة وليست منتجات مستوطنات.
ونقطة الضعف الكبيرة التي بيّنت عجز السلطة الفلسطينيّة وحكومة الدكتور سلام فياض، هي دعوة السلطة العمال الفلسطينيّين إلى التوقّف عن العمل داخل المستوطنات وقد وعدتهم بتوفير بدائل.. لكن من دون جدوى.
ولفت منصور إلى أن "السلطة الفلسطينيّة وعلى الرغم من ملايين الدولارات التي تخصّصها لها الدول المانحة، عجزت عن توفير مصادر رزق نحو 40 ألف عامل فلسطيني يعتاشون على العمل في المستوطنات".
إن العمل في المستوطنات يتناقض مع المشروع الوطني لبناء دولة فلسطينيّة متّصلة الأطراف. لكن هذا ليس التناقض الفلسطيني الوحيد، إذ إن إقبال المواطن الفلسطيني على شراء منتجات المستوطنات لا بل والذهاب إلى المستوطنات الإٍسرائيليّة للتسوّق، يجسّد ذروة التناقض بعينه.
فمئات الفلسطينيّين يقصدون شهرياً مجمّعات تجاريّة لرجل الأعمال الإسرائيلي رامي ليفي في مستوطنتَي "كفار عتصيون" في الخليل و"معاليه مخماس" بالقرب من رام الله، باحثين عن أرخص الأسعار والعروض.
وروت دلال الكويتي وهي أم لخمسة أطفال قائلة "عندما ذهبت للمرّة الأولى قبل أربع سنوات للتسوّق من "رامي ليفي"، كان غريباً بالنسبة إلي أن أتواجد في مستوطنة وأن أتسوّق إلى جانب مستوطنين. لكني اعتدت ذلك".
وتتسوّق دلال الكويتي مرّتَين شهرياً من "رامي ليفي"، بما قيمته ألف شيكل أي ثلث راتب زوجها الذي يعمل في السلطة الوطنيّة. فأوضحت "إذا أردت التسوّق من السوق المحلي الفلسطيني فإنني أحتاج إلى ضعفَي المبلغ على الأقل. هنا نجد عروضات وتنزيلات دائمة على المواد التموينيّة، وهو شيء غير متوفّر في السوق المحلي".
وعلى الرغم من قيام صندوق الكرامة الوطنيّة لمكافحة بضائع المستوطنات بنشر صور لأرقام سيارات ووجوه مموّهة للمتسوّقين الفلسطينيّين بهدف ردعهم عن الذهاب إلى "رامي ليفي"، إلا أن ذلك لم يمنعهم.
وقد لخّص كل من خالد منصور وعمر قبها المشكلة بأنها "قلة الوعي لخطورة المستوطنات، وقلة الانتماء عند بعض الفلسطينيّين الذين يُقبِلون على شراء بضائع المستوطنات أو الذهاب إليها للتسوّق، بالإضافة إلى عدم دعم الحكومة للمنتج المحلي... فهذه كلها عوامل تصبّ في مصلحة بضائع المستوطنات في الضفة الغربيّة".
وتجدر الإشارة إلى أن قرار الإتحاد الأوروبي ضدّ هذه البضائع أتى مستفزاً لإسرائيل، في حين وصفه وكيل وزارة الاقتصاد الوطني عبد الحفيظ نوفل بـ"المتأخّر، لكنه في السياق الصحيح". وهذا ما دفع الإعلام الإسرائيلي إلى الخروج بعناوين كبيرة تقول بأن قرار الإتحاد الأوروبي سيضرّ بمصالح فلسطينيّة-إسرائيلة مشتركة، الأمر الذي نفاه نوفل.