تجاوز إلى المحتوى الرئيسي

مثقّفو مقاهي شارع الحمرا.. لاجئون منبوذون

People sit in a coffee shop in Hamra street in Beirut January 24, 2011. Lebanon was plunged into political crisis after Hezbollah and its allies walked out of caretaker Prime Minister Saad al-Hariri's unity government on Jan. 12 in a dispute over still-confidential indictments by a U.N.-backed tribunal which is investigating the 2005 killing of statesman Rafik al-Hariri, the premier's father. Picture taken January 24, 2011. REUTERS/Sharif Karim  (LEBANON - Tags: SOCIETY) - RTXX13K

قبل سنوات عدّة تجمّعت ثلّة من مثقّفي بيروت المنتمين إلى طوائف دينيّة مختلفة والآتين من مناطق متعدّدة داخل مقهى "المودكا" في شارع الحمرا في بيروت، للاحتجاح على قرار صاحبه إقفاله لأسباب ماليّة. واعتبر المثقّفون أن هذا القرار يأتي ضدّ الثقافة وضدّ ذاكرة المكان المفعمة بأحداث ثقافيّة هامة، مطالبين وزارة الثقافة اللبنانيّة بالتدخّل لإنقاذه. لكن المقهى أقفِل في نهاية الأمر، وبالتتالي أقفِلت في إثره مقاه أخرى لم تكن أقلّ شأناً لجهة قيمتها كإمكنة كان يلتقي فيها المثقّفون .

"شانزليزيه" بيروت

مقهى "المودكا" الذي افتتح في ستينيات القرن الماضي، كان يقابله مقهى "الويمبي" الذي تمّ إقفاله أيضاً، لأسباب ماليّة. وعلى مسافة ليست بعيدة عنهما، عند بداية شارع الحمرا، كنا نجد مقهى "هورس شو" الذي طالما كان مثقّفو وزعماء المعارضات العربيّة يصرفون فيه قسطاً كبيراً من وقت منفاهم في بيروت. أكرم الحوراني كان واحداً من روّاده الدائمين، وكذا الحال بالنسبة إلى شخصيّات عربيّة أخرى كثيرة.

طوال ثلاثين عاماً كانت مقاهي الحمرا (1960 - 1990) بمثابة أمكنة يداوم على ارتيادها مثقّفون وصحافيّون وسياسيّون وفنانون لبنانيّون وعرب. وفي فترة ما بعد العام 67 الذي شهد هزيمة الأنظمة العربيّة في وجه إسرائيل، ذاع صيت هذه المقاهي بوصفها غرف سريّة وضِعت فيها بيانات تأسيس أحزاب عربيّة معارضة ورسِمت فوق طاولاتها خطط الانقلابات في غير دولة. وكان انتقال مبنى جريدة "النهار" اللبنانيّة التي كانت تُعتبر الصحيفة الليبراليّة الأولى في العالم العربي، إلى شارع الحمرا، قد ساهم في تعميق نكهته السياسيّة والثقافيّة.

وكان كاتب العامود اليومي الشهير في "النهار" الراحل ميشال أبو جودة، قد أشار إلى أن عرفات ورفاقه اجتمعوا في مكاتبها خلال لحظات حسّاسة من تاريخ حركة فتح. وفي الأساس ولدت فكرة إنشاء شارع الحمرا في خمسينيات القرن الماضي، على أيدي طبقة سياسيّة لبنانية تنتمي بغالبيّتها إلى الثقافة الفرنكوفونيّة. وقد أراد هؤلاء أن يستنسخوا من خلال إنشاء شارع الحمرا في بيروت، فكرة شارع الشانزليزيه في باريس الذي تصطفّ على جانبيه مقاهي الأرصفة التي تقصدها طبقات مثقّفة من حول العالم .

بعد نكسة العام 1967 منع الأمن العام اللبناني عرض مسرحيّة "مجدلون" لكاتبها هنري حماتي وبطلتها نضال الأشقر، وكلاهما ينتميان إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي (علماني-يساري). وكانا قد حاولا من خلال هذه المسرحيّة تجسيد إرهاصات بداية خيار المقاومة الشعبيّة ضدّ إسرائيل للردّ على هزيمة العام 67. وكفعل تحدّ للدولة التي منعت عملهما، قام الثنائي الأشقر وحماتي بعرض مسرحيّتهما في العراء أمام مقهى "هورس شو" .

وقد أدّى ذلك إلى تعاظم صيت شارع الحمرا ومقاهيه كمكان للقاء المثقّفين الخارجين عن الانتظام الرسمي العربي.

ولكن منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، بدأ شارع الحمرا يشهد ما يشبه التسونامي في وجه مقاهيه ذات السمة الثقافيّة. وأسباب ذلك عديدة، منها أن نمط الاستهلاك في لبنان تغيّر. فبدلاً من المقاهي التي تعتني بطاولات المثقّفين، حلّت مقاهي الإكسبرس والوجبات السريعة التي صار لها روّاد كثر نتيجة أنها تلبّي مستوى المعيشة الآخذ في الانخفاض من ناحية، ولأنها تناسب من أخرى عصر السرعة وبالتالي الإيقاع السريع للحياة. كذلك، أصبحت مقاهي الإنترنت أكثر من ظاهرة وقد باتت تعبّر عن أسلوب حياة واستهلاك في آن معاً.

وفي غمرة هذا التغيّر في نمط الحياة، أصبح مثقّفو المقاهي لاجئين ثقافيّين لا يجدون مكاناً يناسب جلساتهم النقاشيّة الطويلة. وأكثر من ذلك، بات وجودهم غير مرغوب فيه بالنسبة إلى الكثيرين من أصحاب المقاهي الجديدة الذين وضعوا لمشاريعهم خطط جدوى اقتصاديّة تقوم في الأساس على جني الأرباح من زبائن عابرين.

تبدّل الهويّة

لم يشعر الكثيرون من روّاد شارع الحمرا اليوم، بواقع أنه تجرّد تقريباً من سمته الأساسيّة التي واكبت نشأته الأولى (أي كونه شارع المثقّفين). فثمّة حالة سريعة من التكيّف حصلت مع التغيّر الذي طرأ على هويّته وطابعه. ومعظم روّاده اليوم هم من جيل الشباب اليافعين الذين يقصدون بشهيّة وبنسبة إقبال عالية عشرات الحانات التي انتشرت فيه والتي تقدّم لهم  بالإضافة إلى السهرات الصاخبة المفعمة بالغناء والموسيقى والمشروبات الروحيّة، وجبات تعارف سريعة بين شابات وشبان مراهقين. وإلى جانبها، انتشرت مقاه يعبق فضاؤها شبه المفتوح بدخان متعاطي النراجيل.. وتدخين النرجيلة عادة تركيّة الأصل تلقى اليوم في لبنان إقبالاً شديداً عليها.

بالنسبة إلى الشاعر والأديب بلال شرارة، وهو رئيس الحركة الثقافيّة التي تنتشر مقرّاتها في العديد من المحافظات اللبنانيّة، فإن "مقاهي المثقّفين هي ظاهرة أصبحت مهدّدة بالانقراض. لقد أصبحنا نبحث عن أمكنة لنا خارج شارع الحمرا الذي كانت مقاهيه تبتسم لثقافتنا". يضيف  "أنا شخصياً بنيت لي كوخاً في ضيعتي بعيداً في الوادي. وهناك صرت أكتب وأقرأ وأدعو مثقّفين ليمارسوا معي في كوخ القرية، رياضة النقاش الثقافي".

أما الشاعر عصام عبد الله وهو شاعر ذائع الصيت في لبنان يكتب باللهجة العاميّة،  فيقول "أنا أحمل ثقافتي على كاهلي كما أحمل عمري كلّ يوم إلى مختبر فحص الدم.. لقد تقدّمت في السنّ، وشارع الحمرا أيضاً تقدّم في السنّ. وهو مصاب بالألزهايمر. فهو لم يعد يذكرنا نحن مثقّفوه القدامى الذين بنينا مجده الثقافي".

ويتذكّر عبد الله أنه "خلال عقدَي السبعينيات والثمانينيات، كانت مقاهي شارع الحمرا أشبه بساحات اليونان في أيام الفلاسفة. في المودكا، كان يتحلّق حول إحدى طاولاتها المفكّر السياسي منح الصلح والموهبة الصحافيّة ميشال ابو جودة ورئيس الحكومة الحكيم تقي الدين الصلح. وحول طاولة أخرى في مقهى "كافيه دو باري" القريب، كان يجلس فنانون رفعوا اسم لبنان، من أمثال الفنانة صباح وشوشو أبو المسرح اللبناني، إلخ... أين هم الآن؟ بعضهم مات. وبعضهم، حتى لو جاء الآن إلى شارع الحمرا، فإنه لن يجد مقهى يستقبله". 

ويلفت مدير مقهى افتتح حديثاً في شارع الحمرا قائلاً لـ"المونيتور"، "بصراحة، هؤلاء المثقّفون يجعلون المقهى يخسر. فهم يصرفون ساعات في نقاش أمور لا تعنيني، أما فاتورة حسابهم فهي زهيدة. إنهم كرماء في الكلام لكن فاتورتهم بخلية للغاية".

لم يبلغ مدير المقهى ويدعى يوسف، الثلاثين من عمره بعد. فهو لا يفقه الفكرة الثقافيّة التي أنتجت شارع الحمرا خلال عقدين من الزمن، في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. ويصف المثقّفين بأنهم "مجانين بخلاء".

Join hundreds of Middle East professionals with Al-Monitor PRO.

Business and policy professionals use PRO to monitor the regional economy and improve their reports, memos and presentations. Try it for free and cancel anytime.

Already a Member? Sign in

Free

The Middle East's Best Newsletters

Join over 50,000 readers who access our journalists dedicated newsletters, covering the top political, security, business and tech issues across the region each week.
Delivered straight to your inbox.

Free

What's included:
Our Expertise

Free newsletters available:

  • The Takeaway & Week in Review
  • Middle East Minute (AM)
  • Daily Briefing (PM)
  • Business & Tech Briefing
  • Security Briefing
  • Gulf Briefing
  • Israel Briefing
  • Palestine Briefing
  • Turkey Briefing
  • Iraq Briefing
Expert

Premium Membership

Join the Middle East's most notable experts for premium memos, trend reports, live video Q&A, and intimate in-person events, each detailing exclusive insights on business and geopolitical trends shaping the region.

$25.00 / month
billed annually

Become Member Start with 1-week free trial
What's included:
Our Expertise

Memos - premium analytical writing: actionable insights on markets and geopolitics.

Live Video Q&A - Hear from our top journalists and regional experts.

Special Events - Intimate in-person events with business & political VIPs.

Trend Reports - Deep dive analysis on market updates.

We also offer team plans. Please send an email to pro.support@al-monitor.com and we'll onboard your team.

Already a Member? Sign in