تونس: في عام 2008، قرّر طبيب الأسنان الشابّ الدكتور أنس زويتن السفر من تونس إلى باريس لمواصلة التخصّص في زراعة الأسنان وجراحة اللثّة، لتلتحق به زوجته الطبيبة إيمان في عام 2011، ويستقرّا هناك في شكل دائم.
ويكشف زويتن في اتصال هاتفي ل "المونيتور"، بتاريخ 9 فبراير/ شباط 2018 عن أنّ دوافع هجرته إلى أوروبّا كانت بهدف مزيد من التحصيل العلميّ والتعمّق في مجال زراعة الأسنان وجراحة اللثّة، واللذين لا يتوافران في تونس أمام قلّة الإمكانات المادّيّة واللوجستيّة في جامعات الطبّ في شكل عامّ، ويضيف: "في بداية سفري، لم أفكّر في الهجرة نهائيّاً والاستقرار في فرنسا، بل كانت فكرة العودة إلى تونس تراودني، لكن بعدما استكملت تخصّصي العلميّ، ولمست الفرق الشاسع بين ظروف العمل في باريس ومثيلتها في تونس من حيث الراتب مقارنة بما يتقاضاه زملاء لي في تونس والتي أحيانا لا تكفيهم لخلاص أجر كراء العيادة والمستلزمات الطبية سيما في المناطق الداخلية للبلاد، قرّرت أن أستقرّ في شكل نهائيّ في العاصمة الفرنسيّة، لكن ذلك لا يمنعني من زيارة تونس بشكل دوري لتقديم دورات تكوينية لأطباء الأسنان في مجال تخصصي في زراعة الأسنان".
حالة الطبيب التونسيّ الشابّ أنس وزوجته ليست إلّا واحدة من الآلاف من حالات لأطبّاء تونسيّين دفعتهم الرغبة في تأمين حياة أفضل لهم ولعائلاتهم مادّيّاً ومهنيّاً، إلى التفكير في الهجرة إلى أوروبّا وأميركا وكندا والخليج أمام انسداد أفق العمل في تونس، لا سيّما بعد ثورة 14 يناير/ كانون الثاني 2011 -التي أطاحت بنظام الرئيس التونسي السابق بن علي -وانهيار الوضع الاقتصاديّ والاجتماعيّ الذي أثّر على مستوى الخدمات الصحّيّة والبنية التحتيّة للمستشفيات الحكوميّة وجعل أصوات من داخل قطاع الصحة تتعالى لتحذر من خطورة الأزمة التي يمر بها القطاع، لعل آخرها تصريح رئيس غرفة المصحات الخاصة خالد النابلي لصحيفة "البيان" التونسية في 12 فبراير/ شباط 2018 والذي حذر من تدهور المنظومة الصحية في البلاد وبأن التونسيين سيضطرون للعلاج خارج تونس خلال ال 15 سنة القادمة مشيرا إلى هجرة الأطباء كأحد أسبابها.
أرقام صادمة
ويكشف رئيس المجلس الوطنيّ لعمادة الأطبّاء في تونس –هيكل رسميّ ينظّم عمل الأطبّاء في شكل قانونيّ- الدكتور منير يوسف مقني خلال حديثه إلى "المونيتور" عمّا أسمّاه بـ"الأرقام الصادمة لنزيف هجرة الأطبّاء التونسيّين من أصحاب الخبرة وحتّى من دونها إلى الخارج، لا سيّما خلال السنوات الخمس الماضية، حيث باتت تستقطبهم دول كألمانيا والسعوديّة وكندا بحوافز مغرية ورواتب خياليّة".
ويتابع: "لا يوجد هناك إحصاء رسميّ لعدد الأطبّاء الذين هاجروا إلى الخارج، لكنّنا في العمادة استندنا إلى تطوّر عدد شهادات حسن السيرة التي نمنحها إلى الأطبّاء التونسيّين بطلب من الجهات الرسميّة في الدول التي تستقطبهم لتمكينهم من مباشرة عملهم هناك، ولاحظنا خلال السنوات الخمس الماضية (من عام 2013 وحتّى عام 2017) تضاعف عدد الشهادات المسلّمة إلى الأطباء في شكل قياسيّ، حيث قمنا في عام 2013 بتسليم 58 شهادة، مقابل 926 ترسيماً جديدا في العمادة، فيما بلغ في عام 2017 عدد الشهادات المسلّمة 453 شهادة حسن سيرة مقابل 1000 ترسيم جديد في العمادة، وهو ما يعني ارتفاع عدد الأطبّاء المهاجرين خلال السنوات الخمس الماضية من 6% إلى نحو45%، وهو حتماً رقم يجعلنا كعمادة ندقّ ناقوس الخطر في حال تواصل نسق الهجرة على الوتيرة ذاتها، لنجد أنفسنا كدولة ووزارة صحّة نعاني في السنوات العشر المقبلة من نقص فادح في الكوادر الطبّيّة، في ظل استقرار العدد السنوي للمسجلين الجدد بالعمادة مابين 800 إلى ألف طبيب متخرج ممّا سيهدّد فعليّاً بانهيار المنظومة الصحّيّة للمستشفيات الحكوميّة والخاصّة على حدّ سواء، ونجد أنفسنا مجبرين على استجلاب أطبّاء أجانب.
الأطبّاء الشبّان يعلنون الإضراب العامّ
وكانت المنظّمة التونسيّة للأطبّاء الشبّان -منظّمة مستقلّة تعنى بالدفاع عن حقوق الأطبّاء الشبّان في تونس- قد أعلنت عن شنّ إضراب عامّ احتجاجيّ عن العمل والنشاط الجامعيّ في المستشفيات الجامعيّة وكلّيّات الطبّ كافّة في تونس في 9 شباط/فبراير 2018، تنديداً بظروف العمل التي وصفت بالمزرية للأطبّاء الداخليّين والمقيمين وطلبة الطبّ، وعدم استجابة وزارة الصحّة لمطالبهم المتمثلة في سنّ نظام أساسي خاصّ بالأطبّاء الداخليين وتحسين ظروف عمل الأطباء في المناطق المهمشة والتخفيض في ساعات عملهم.
وكان وزير الصحة التونسي عماد الحمامي قد علق في 6 فبراير /شباط 2018 على إضراب الأطباء الشبان بالقول إنه "مبالغ فيه وبأن وزارته استجابت للمطالب المقدمة في إطار مجال تدخلها".
ويقول رئيس المنظّمة التونسيّة للأطبّاء الشبّان جاد الهنشري لـ"المونيتور" إنّ الطبيب التونسيّ الشابّ أضحى يعيش حالة يأس واختناق من وضعيّته المزرية في تونس، ممّا يجعله يفكّر في الهجرة.
ويتابع: "قطاع الصحّة الحكوميّ أضحى قطاعاً متهالكاً يستنزف كلّ قدرات الأطبّاء الشبّان والمقيمين داخل المستشفيات الجامعيّة ولم يعد يستقطبهم، بل أضحى أغلبهم يفكّرون، بمجرّد نيلهم شهادة الدكتوراه، في الهجرة إلى أوروبّا أو كندا لاستكمال تخصّصهم أو بحثاً عن ظروف عمل مادّيّة أفضل وتحصيل مهارات علميّة في مجال الاكتشافات الطبّيّة، والتي لا توفّرها لهم بلادهم".
ويقول الهنشري إنّ العوامل المادّيّة ليست وحدها التي تحفّز الأطبّاء التونسيّين على الهجرة، بل إنّ شعور الطبيب التونسيّ بتقلّص مكانته داخل المجتمع التونسيّ، وتنامي ظاهرة الاعتداء اللفظي والجسدي من قبل المرضى وعائلاتهم داخل أقسام الطوارئ في السنوات الأخيرة، جعل فكرة الهروب الجماعيّ أمراً حتميّاً. ويشدّد على أنّ انخراط بعض وسائل الإعلام التونسيّة في حملة الشيطنة للأطبّاء، من خلال استغلال بعض حالات الأخطاء الطبّيّة الفرديّة وتعميمها على جميع الأطبّاء، جعل صورة الطبيب تهتزّ في المجتمع.
ويشدّد الهنشري على الحالة الكارثيّة للمستشفيات الحكوميّة في تونس وسط غياب أبسط التجهيزات الطبّيّة والأدوية، ممّا يحول دون ممارسة الطبيب عمله في شكل سليم.
تقر المديرة العامّة للصحّة في وزارة الصحة نبيهة البورصالي فلفول في حديثها ل"المونيتور" في 13 فبراير/شباط 2018 بمخاوف وزراتها من تواصل هجرة الأطباء إلى الخارج وتأثيره على المنظومة الصحية في البلاد، لكنها في المقابل تؤكد على وضع الوزارة برنامج إصلاح هيكلي خلال الأربع سنوات الحالية لتحسين هذا القطاه بشكل عام و عمل الأطباء بشكل خاص عبر فتح فرص عمل جديدة والرفع من عدد أطباء الإختصاص الجدد الذين تكونهم الوزارة ليصل إلى 900 سنويا بعد أن كان لايتجاوز ال500 ليتم بعدها انتدابهم في المستشفيات الحكومية.
وتتابع :" سيتم أيضا تقديم حوافز مادية لأطباء الاختصاص الذين يعملون في المناطق الداخلية تصل إلى 400 دولار ووضع برنامج عمل لتشجيع البحوث العلمية في المجال الطبي من خلال تأسيس أقطاب تكنولوجية طبية للحد من هجرة الأطباء الشبان الذين يبحثون عن تطوير مهاراتهم العلمية ومجالات تخصصهم الطبية خارج تونس".
وبحسب الأرقام التي قدمتها البورصالي فيقدر العدد الجملي للأطباء في القطاع العام بنحو 6 آلاف طبيا يتوزعون على مختلف المؤسسات الصحية الحكومية بمعدل 13 طبيا لكل 10 آلاف ساكن فيما يقدر العدد السنوي للأطباء المنتدبين جدد بنحو 390 طبيبا في القطاع العام سنة 2017 مقابل هجرة نحو ألف طبيب سنويا كمعدل تقريبي.
وتشدد على أن "هجرة الأطباء لاسيما من ذوي الخبرة في منتصف حياتهم المهنية لاسيما إلى دول الخليج يعود أساسا إلى حجم الرواتب المقدمة والتي تصل إلى 40 ألف دينار شهريا /17 ألف دولار وهي تمثل عشرات أضعاف ما يتقاضاه في تونس حيث يصل معدل الرواتب في القطاع الحكومي من 700 إلى 1500 دولار "حسب قولها .
وبالرغم من المجهودات التي تقول الحكومة التونسية أنها تبذلها للحد من ظاهرة هجرة الكفاءات الطبية إلى الخارج وإغرائهم بالحوافز المادية وبتحسين ظروف عملهم داخل المستشفيات الحكومية غير أن ذلك لم يوقف نزيف هذه الظاهرة من سنة إلى أخرى ليزيد من تعميق أزمة قطاع الصحة في تونس ويهدد بانهياره.