ألقت قوّات الأمن المصريّة يوم الأحد في 3 أيلول/سبتمبر الجاري القبض على 24 نوبيّاً شاركوا في مسيرة خرج فيها عشرات النوبيّين تحت شعار "التجمّع النوبيّ"، في محافظة أسوان ضربوا فيها الدفوف، وأنشدوا الأغاني النوبيّة لأجل حقّ العودة إلى أراضيهم الأصليّة حول بحيرة ناصر على ضفاف النيل، مطالبين بتفعيل المادّة 236 من الدستور الصادر في عام 2014، والتي تنصّ على أن تعمل الدولة على "وضع وتنفيذ مشروعات تعيد سكّان النوبة إلى مناطقهم الأصليّة وتنميتها خلال عشر سنوات، وذلك على النحو الذى ينظّمه القانون".
وأعلن المحتجزون في معسكر قوات الأمن المركزيّ في منطقة الشلال بأسوان، إضرابهم عن الطعام يوم 3 سبتمبر احتجاجاً على التعامل الأمنيّ مع المسيرة، وأنهوه بعد مرور ثلاثة أيّام بحسب تصريحات المحامي عبد العاطي أبو الترس، المحامي بالمفوضية المصريّة للحقوق والحريات والمتابع للقضية لـ"المونيتور". وأضاف أبو الترس أنّ نيابة أسوان أسندت للمحتجزين تهم التظاهر من دون تصريح، وقطع الطريق، وتمويل التظاهرات، مشيراً إلى أنّ بين المحتجزين رئيس منظّمة المحامين النوبيّين المحامي منير بشير ورئيس الاتّحاد النوبيّ السابق محمّد عزمي.
وبينما قرّرت محكمة أسوان يوم الإثنين في 19 أيلول/سبتمبر إخلاء سبيل المحتجزين بكفالة ماليّة، استأنفت النيابة على القرار في صبيحة اليوم التالي.
"المسيرة كانت سلميّة تماماً"، هذا ما يؤكّده الناشط النوبيّ عبد الدايم عزّ الدين لـ"المونيتور"، إذ يقول:" قوّات الأمن أعدّت كميناً للمتظاهرين، حاصرتهم واعتدت عليهم بالضرب حتّى أنّها ضربت الفتيات النوبيّات".
قوبل اعتقال النشطاء النوبيّين بإدانات محلّيّة ودوليّة، إذ أدانته من داخل مصر حركات سياسيّة ومنظّمات حقوقيّة، فيما حثّت منظّمة العفو الدوليّة يوم 12 سبتمبر، الحكومة المصريّة على الإفراج عن المعتقلين، وقالت في بيانها إنّ "الحكومات المصريّة المتعاقبة قامت بتهجير النوبيّين قسراً من أجل إقامة مشاريع للتنمية".
بدأ تهجير النوبيّين في عام 1902، عندما بدأ العمل في خزّان أسوان، ووقع التهجير بصورته الكبرى بين عامي 1963 و1964 عندما بدأت الحكومة المصريّة في العمل على إنشاء السدّ العالي خلال فترة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، حيث تمّ تهجير 44 قرية نوبيّة، وكان عددهم 17699 أسرة نوبيّة، ويعيش أغلب النوبيين المهجرين حاليًا في مركز نصر النوبة، في صحراء كوم امبو بمحافظة أسوان.
وتجدّدت آمال النوبيّين في العودة مع اندلاع ثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011، وبدأوا في تنظيم حراكهم السياسيّ والاجتماعيّ، ونشأ بعض التنظيمات، من بينها الاتّحاد النوبيّ الذي تأسّس في أسوان في نيسان/أبريل 2011، والذي نظّم فعاليّات عدّة، منها اليوم النوبيّ العالميّ في 7 تمّوز/يوليو 2011 والذي يحييه النوبيون سنويًا.
ونتيجة الضغوط التي مارسوها على الحكومة، صدر دستور عام 2014 الذي شمل المادّة 236 التي تلزم الحكومة بوضع خطّة اقتصاديّة شاملة لتطوير الأراضي النوبيّة. لكنّ الرئيس عبد الفتّاح السيسي أصدر لاحقًا قرارين أثارا جدلاً واسعاً وحالة إحباط عامّة في أوساط النوبيّين. فقد أصدر مرسوماً جمهوريّاً رقم 444 في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 2014، اعتبر فيه 16 قرية نوبيّة من أصل 44 قرية، أراضٍ حدوديّة عسكريّة. وصدّق البرلمان على القرار الذي بموجبه سيطر الجيش على تلك المناطق وأصبح لا يجوز للمدنيّين العيش فيها أو الاستفادة منها. لجأ النوبيّون إلى القضاء وطعنوا بالقرار، وأوصت هيئة مفوّضي مجلس الدولة في 18 آب/أغسطس من العام الجاري بإلغائه.
"للأسف منعنا القرار من حقّنا في العودة"، يقول عبد الدايم لـ"المونيتور"، ويضيف: "إذ أنّه يتعارض تماماً مع المادّة 236 ويصعّب علينا كلّ شيء". ويرى عبد الدايم أنّ الحكومات المصريّة المتعاقبة خذلت النوبيّين، مؤكدّاً أنّهم لن ينظروا بجدّيّة إلى الوعود الحكوميّة، من دون جدول زمنيّ واضح لتنفيذ مطالبهم.
وفي 10 آب/أغسطس 2016، أصدر السيسي قراراً ثانياً بضمّ 922 فدّاناً من أراضي خورقندي وتوشكى الواقعتين في نطاق النوبة القديمة على ضفاف بحيرة ناصر جنوب أسوان. إلى مشروع المليون ونصف المليون فدّان التابع إلى شركة الريف المصريّ وطرحها على المستثمرين في المزاد العلنيّ. ويهدف المشروع الذي أطلقه السيسي في ديسمبر 2015 إلى زيادة مساحة الرقعة الزراعية بنسبة 20% وخلق مجتمعات عمرانية جديدة.
استجاب النوبيّون للمرسوم الثاني بأن نظّموا في 19 تشرين الثاني/نوفمبر قافلة سمّيت بـ"قافلة العودة النوبيّة"، واتّجهوا صوب منطقتي خورقندي وتوشكى للمطالبة بوقف بيع أراضيهم بالمزاد العلنيّ، ومنحها إلى النوبيّين للعيش والاستثمار فيها. استوقفت قوّات الأمن القافلة، وحاصرت المتظاهرين، ومنعت عنهم الطعام والشراب، فأعلنوا الاعتصام لأيّام على الطريق العامّ. لكنّهم اضطرّوا إلى فضّ اعتصامهم بعد تدخّل مسؤولين حكوميّين للتفاوض معهم، وأمهلوا الحكومة شهراً للاستجابة إلى مطالبهم.
وفي 18 كانون الثاني/يناير من العام الجاري، جاء الردّ، خلال مؤتمر الشباب في محافظة أسوان، إذ أعلن السيسي استبعاد منطقة خورقندي البالغ مساحتها 12 ألف فدّان من المشروع، ووضع تصوّراً كاملاً لتطوير جنوب مصر خلال فترة لا تزيد عن ثلاثة أشهر. وقطع وعوداً، من بينها تخصيص 320 مليون جنيه لتطوير تلك المناطق قبل نهاية حزيران/يونيو 2018، تشمل تقوية خدمات الصرف الصحّيّ، الكهرباء، وباقي المرافق، فضلاً عن تخصيص خمسة مليارات لخدمة هذا الغرض.
يقول ممثّل النوبة في البرلمان ياسين عبد الصبور لـ"المونيتور": الأموال المخصصة لتمويل الهيئة العليا لتنمية جنوب مصر لم تصرّف ولم يعلن عن تفاصيل إنفاقها بعد بسبب عدم صدور قانون ينظم عمل الهيئة حتى الآن، مضيفاً أنّ الحكومة تتجاهل مشروع قانون تقدّم به في مارس 2017 خاصّاً بخطّة تنمية اقتصاديّة لمناطق النوبة، إذ يوضح: "تقدّمت به منذ عشرة أشهر، ولم يناقشه البرلمان حتّى الآن، لكنّ رئيس البرلمان علي عبد العال وعد بأن تتمّ مناقشته في دور الانعقاد المقبل.
بعد صدور دستور 2014، شكلّت وزارة العدالة الانتقاليّة لجنة لتنمية النوبة وإعمارها خرجت بمسوّدة لقانون إنشاء الهيئة العليا لتنمية النوبة وتعميرها، إلا أنّه حتّى الآن لم يصدر القانون الذي ينتظره النوبيّون منذ ما يقارب الأربع سنوات من تاريخ صدور الدستور المصريّ.
يؤكّد النوبيّون الذين يشعرون بتهميش الحكومة لهم أنّهم لن يتوقّفوا عن المطالبة بحقوقهم التاريخيّة المشروعة، وفي سبيل ذلك يلجأون إلى المسيرات والأغاني النوبيّة، رافعين مطلباً لا يتغيّر بـ"حقّ العودة". يقول عبد الصبور إنّ النوبيّين يحبّون بلادهم ولا يفكّرون أبداً في هدم الدولة المصريّة، ويضيف: "ليت كلّ مسيراتنا الاحتجاجيّة غناء على الدفوف، ليت كلّ التظاهرات مثل تظاهرات النوبيّين".