ميلانو، إيطاليا – في محاولة منها لمواجهة الميليشيات التي تعدّ ولا تحصى في الدولّة الليبية المتصدّعة، تسعى حكومة الرئيس فايز السرّاج المعترف بها من قبل الأمم المتّحدة إلى التعاون مع أحد مستعمريها السابقين: إيطاليا.
تواصلت حكومة السرّاج مع السلطات الإيطاليّة في محاولة منها للنيل من مهرّبي البشر، إلّا أنّ الحكومة الهشّة تجد نفسها مجبرة على التوفيق بين قبول المساعدة الدوليّة التي هي بأشدّ الحاجة إليها من جهة ولإغضاب المواطنين من جهة أخرى.
وقال طالب الدكتوراه في الجغرافيا السياسيّة في جامعة باريس 8 والخبير في الشؤون الليبيّة جلال حرشاوي للمونيتور: "منذ عام 1911 وخاصّة في ثلاثينيّات القرن الماضي، اتخذت إيطاليا أشنع الإجراءات على الأراضي الليبيّة. وصحيح أنّ قرنًا واحدًا يعتبر وقتًا قصيرًا في ما يتعلّق بالذاكرة التاريخيّة. فهذه الأحداث لا تزال حيّة في ذاكرة الليبيين دون شكّ".
استعمرت إيطاليا ليبيا في عام 1911 وبقيت في البلاد حتى العام 1947. وكان التواجد الإيطالي في ليبيا يحكمه النظام الفاشيّ في إيطاليا الذي ارتكب عددًا الفظائع بدءًا من مجزرة العاصمة طرابلس في عام 1911. خلال هذه الفترة، اضطهدت إيطاليا العرب والبرابرة واليهود في شمال إفريقيا.
هذا وقام أخصام السراج السياسيين باستذكار تاريخ إيطاليا الاستعماري الشنيع كتكتيك للسيطرة على الأراضي الليبيّة. فحاول الجنرال خليفة حفتر الذي يسيطر على مساحات واسعة من الأراضي شرقي ليبيا والذي يحظى بدعم مصريّ شدّ العصب الليبيّ ضدّ السرّاج مستخدمًا هذا التكتيك.
أجبر ذلك السراج على تبني خطاب غامض في بعض الأحيان. يدّعي كلّ من السراج وحفتر التمثيل الشرعي للدولة الليبيّة، وعقدا محادثات سلام في باريش في شهر تموز / يوليو الماضي. قام السراج الذي يتمتّع بشرعيّة الأمم المتّحدة بمراسلة إيطاليا في 23 تموز / يوليو الماضي. وطلب في الرسالة المساعدة من إيطاليا في وقف ظاهرة اللاجئين والمهاجرين الذين يعبرون البحر على متن قوارب من ليبيا إلى إيطاليا. قبلت السلطات الإيطاليّة طلب السرّاج. غير أنّه بعد خمسة أيّام، نفى السراج أنّه طلب من سفن البحريّة الإيطاليّة دخول المياه الإقليميّة الليبيّة، وذلك وفقًا لموقع "ستراتفور" الإلكتروني الذي نقل أنّه "في وقت لاحق من اليوم نفسه، بحث السراج مع وزير الداخليّة الإيطالي ماركو مينيتي في إمكانيّة الحصول على المساعدة الإيطاليّة وبالتالي التغلب على المعارضة المحليّة في ليبيا".
قال الخبير في الشؤون الليبيّة في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجيّة ماتيا توالدو للمونيتور أنّ: "وقف حركة القوارب إلى أوروبا لا يشكل أولويّة بالنسبة إلى الليبيين، وذلك يفسّر لماذا يمكن لأمثال حفتر استخدام مهمّة البحريّة الإيطاليّة كأداة بروباغاندا ونزع الشرعيّة من السراج وتصويره كأداة في يد القوى الاستعماريّة. ويجد السراج نفسه في موقف صعب: يحتاج أن يعطي إيطاليا شيئًا مقابل الشرعيّة التي يحظى بها من روما دون غيرها، لكنّه لا يستطيع أن يظهر وكأنّه يمتثل للمطالب الأجنبيّة".
تجدر الإشارة إلى أنّ إيطاليا تجري انتخابات عامّة العام المقبل، وقد تكون مسألة اللاجئين ورقة ضغط سياسيّة من شأنها قلب النتائج. لغاية الآن هذا العام، وصل 94 ألف لاجئ جديد إلى الشواطئ الإيطاليّة. يتجاوز هذا العدد الأرقام لعامي 2016 و2015 وفقًا للمنظّمة الدوليّة للهجرة. في حال قامت الحكومة الحاليّة بمنع وصول اللاجئين، من شأن ذلك إعطاء زخم كبير للحزب الديمقراطيّ الحاكم برئاسة رئيس الوزراء باولو جنتيلوني.
كما يمكن لذلك أن يأتي بنتائج عكسيّة، حيث حذّرت منظّمات كـ"هيومن رايتس ووتش" إيطاليا أنّ هكذا إجراءات يمكن أن تشكّل انتهاكًا لحقوق الإنسان. وقالت مديرة مكتب هيومن رايتس ووتش لأوروبا وآسيا الوسطى جوتيث سندرلاند أنّ: "انتشار البحريّة الإيطاليّة على الشواطئ الليبيّة قد يؤدّي إلى الاعتقال التعسّفي في ظروف مشينة. بعد سنوات من إنقاذ الأرواح في عرض البحر، تحضّر إيطاليا لمساعدة القوّات الليبيّة المعروف أنّها تعتقل أشخاصًا في ظروف تعرّضهم لخطر حقيقيّ متمثّل في التعذيب والعنف الجنسي والعمل الجبري".
وقال خبير أمني واحد على الأقلّ أنّه يتعيّن على الاتحاد الأوروبيّ تشكيل وحدة إنقاذ بحريّة للمهاجرين واللاجئين. وفي مقابلة مع القناة الألمانيّة دويتشه فيله، قال سيباستيان بيرنز وهو رئيس مركز الاستراتيجيّة والأمن البحري في معهد السياسات الأمنية في جامعة كيل أنّه "يجب معالجة الأسباب الجذريّة للهجرة على أرض الواقع. لا يمكن الهروب من ذلك. إنّ الجهود المبذولة من قبل الوحدات البحريّة والمنظّمات غير الحكوميّة أو حتى فرونتكس لا تعالج سوى العوارض".
في الوقت نفسه، يرغب الليبيون في وضع حدّ للهجرة إلى إيطاليا لأن معظم اللاجئين والمهاجرين يدفعون رسومًا للمهرّبين، وبالتالي يقومون بدفع الأموال للميليشيات بشكل مباشر أو غير مباشر مقابل العبور آمن عن طريق المهرّبين. تعزز هذه الأموال من قوّة الميليشيات الواقعة خارج سيطرة الحكومة. في الواقع، من شأن طريق التهريب من ليبيا إلى أوروبا تمويل عدم الاستقرار في ليبيا.
وقال توالدو أنّ "المهربين إلى جانب الاقتصاد غير الرسميّ يقوّضون من سلطة الدولة في ليبيا: يزدهرون بواسطة التجارة غير الشرعيّة للسلع المدعومة من الحكومة ويقفون بواسطة الميليشيات بوجه قيام دولة حديثة. وبهذا الصدد، أي شخص يحارب المهرّبين سيجد حلفاء له في ليبيا. تكمن المشكلة في أنّه على الرغم من الخطاب الرسميّ، من الواضح أنّ مصالح إيطاليا وأوروبا في ليبيا الأكثر إلحاحًا تتمثّل بوقف تدفق اللاجئين".
ويبدو أنّ حكومة السرّاج في ليبيا تعتقد أنّ السفن البحريّة الليبيّة من شأنها ردع محاولات الوصول إلى إيطاليا في المستقبل. ولكن حتى لو حدث ذلك، لا يزال على ليبيا التعامل مع تداعياته.
وأضاف توالدو أنّه "من المفارقات، ستكون هذه الإجراءات أكثر تعقيدًا في حال نجحت هذه السياسة في منع تدفق اللاجئين. من وجهة النظر الإيطاليّة، يمكن لذلك أن يشكّل تغييرًا جذريًّا عبر الحدّ من الهجرة إلى أراضيها بشكل شبه كامل. لكن من وجهة النظر الليبيّة يمكن لذلك أن يضع الدولة أمام مشكلتين: كيف يتمّ التعامل مع المهاجرين الذين سيبقون في ليبيا؟ وما الذي سيقوم به المهرّبون في حال توقّفوا عمّا يقومون به؟ ترتكز أنشطتهم الأخرى على تهريب النفط والمخدرات وتجارة الأسلحة. لكن ثمّة في أوروبا من يعتبر أنّه يتعيّن التعامل مع هذه المسائل بعد إنجاز ما يتعيّن إنجازه".
بذلك، تكون تحاول ليبيا الابتعاد عن شفير الأزمة. من ناحية، من الجيّد انتزاع السلطة من أيدي المهربين والميليشيات المحليّة. لكن في الوقت نفسه يشهد التاريخ أنّ المساعدة الأوروبيّة غالبًا ما تخدم مصالحها الخاصة، وفي خضمّ هذا العام الانتخابيّ قد لا تكون إيطاليا تتطلّع إلى إيجاد حلول مستدامة في مستعمرتها السابقة".