متحف آيا صوفيا الذي يُعتبَر من المعالم السياحية الأكثر رواجاً في اسطنبول، كان عبارة عن بازيليك للمسيحيين الأرثوذكس عند تشييده في العام 527. وقد جرى تحويله إلى مسجد أمبراطوري لدى سيطرة العثمانيين على اسطنبول في العام 1453. بعد أعمال الترميم بين العامَين 1931 و1935، أعيد افتتاحه في شكل متحف في ظل الجمهورية التركية العلمانية التي كانت قد تأسّست حديثاً. لكن منذ العام 1931، ظل الحنين يراود المحافظين الأتراك إلى تحويله إلى مسجد من جديد. خلال العقد المنصرم، قامت مجموعات إسلامية فضلاً عن قوميين متشدّدين، بموافقة ضمنية من الحكومة، بتحرّكات دورية سلّطت الأضواء على متحف آيا صوفيا ودفعت به نحو صدارة العناوين. فقد نظّموا تجمّعات وناشدوا الحكومة تحويل المتحف إلى مسجد في خطب الجمعة، وأطلقوا عرائض لدفع الرأي العام نحو تركيز اهتمامه على المسألة.
أخيراً، في 11 نيسان/أبريل 2015، قبل يوم واحد من أحد الفصح لدى الطوائف الأرثوذكسية الذي تزامن مع عيد مولد النبي محمد، تمت تلاوة القرآن داخل آيا صوفيا لأول مرة منذ 85 عاماً. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 2015، أقدم زائر شاب يدعى فاتح دورتبوداك من محافظة سانليورفا، على أداء الصلاة داخل المتحف. ومع قيام المتفرّجين بتشارك الصورة، انتشر هاشتاغ #AyasofyayaOzgurluk (الحرية لآيا صوفيا) عبر مواقع التواصل الاجتماعي. وفي كانون الأول/ديسمبر الماضي، قدّم نائب رئيس الكتلة النيابية لـ"حزب الحركة القومية"، يوسف حلاج أوغلو، مشروع قانون جديداً إلى البرلمان التركي للمطالبة بتحويل آيا صوفيا إلى مسجد من جديد. يُشار إلى أنه كان قد اقترح أيضاً مشروع قانون بهذا الصدد في تشرين الثاني/نوفمبر 2013. في كل عام في 29 أيار/مايو، تثير الاحتفالات المترفة في ذكرى غزو اسطنبول والأفلام الوثائقية التلفزيونية التي تشدّد على مفهوم "بيزنطيا الغادرة"، مشاعر التمسّك بأحقّية تحويل آيا صوفيا إلى مسجد.
هذا العام، اجتمع الآلاف في 28 أيار/مايو أمام آيا صوفيا وصلّوا كي يتحوّل المبنى إلى مسجد. وزعم النشطاء أنهم جمعوا 15 مليون توقيع دعماً لقضيتهم. تثير هذه المسألة خلافات حادة إلى درجة أنه عندما وافقت الحكومة الألمانية على قرار الاعتراف بالإبادة الأرمنية، لمّح مسؤولون كبار في حزب العدالة والتنمية إلى أنه يجب اعتماد سياسة العين بالعين – أي إنه ينبغي على تركيا أن تسمح الآن بتحويل آيا صوفيا إلى مسجد.
الخطوة الأهم نحو تحويل آيا صوفيا إلى مسجد جرى الإعلان عنها في الأول من حزيران/يونيو الجاري. فقد أبلغت قناة "تي آر تي" التلفزيونية المملوكة من الدولة المشاهدين أنها ستبثّ برنامجاً لمناسبة شهر رمضان انطلاقاً من آيا صوفيا عند كل سحور، وتتضمن إحدى فقراته تلاوة القرآن. أما الشخصية التي استضافها البرنامج في حلقته الأولى فلم تكن سوى محمد غورميز، رئيس مديرية الشؤون الدينية التركية، الذي تحدّث عن قبّة آيا صوفيا وشرح أهميتها في التاريخ الإسلامي.
أثار هذا القرار حفيظة الأتراك العلمانيين والمسيحيين الأرثوذكس. فقد سارعت وزارة الخارجية اليونانية إلى إصدار بيان أعربت فيه عن قلقها إزاء هذا القرار "الرجعي" الذي ينم عن عدم احترام لموقع مدرَج على لائحة اليونيسكو للتراث العالمي. ولفت البيان إلى أن هذه الممارسات لا تنسجم مع "المجتمعات الحديثة الديمقراطية والعلمانية".
وقد انتقلت وزارة الخارجية التركية في الثامن من حزيران/يونيو الجاري إلى موقع الهجوم، فدعت اليونان إلى "التحلّي بالمنطق في خطابها وتصريحاتها"، فيما اتّهمتها بعدم امتلاك مسجد في العاصمة، وبالتالي قمع الحريات الدينية للمسلمين في تراقيا.
مع استمرار الحرب الكلامية بين الحكومتَين، أكّد المسؤولون اليونانيون الذين أجرى موقع "المونيتور" مقابلات معهم، أن هذه المسألة يجب ألا تكون ثنائية الطابع، ونقلوا مخاوفهم إلى البرلمان الأوروبي.
في غضون ذلك، ثمة تضارب في الآراء الدولية أيضاً. ففي حين علّقت وزارة الخارجية الأميركية بأنه ينبغي على تركيا احترام تقاليد آيا صوفيا، اعتبرت ألمانيا أن وجهة استخدام آيا صوفيا هي شأنٌ تركي داخلي.
في العاشر من حزيران/يونيو الجاري، عندما أشارت العناوين الرئيسة في وسائل الإعلام التركية إلى أن القنصل العام اليوناني في اسطنبول توجّه إلى آيا صوفيا حوالي الساعة الثانية من بعد منتصف الليل لمعاينة تلاوة القرآن، شنّت وسائل الإعلام الموالية لـ"حزب العدالة والتنمية" هجوماً غاضباً سألت فيه كيف يجرؤ الديبلوماسي على التقصّي عما يجري في آيا صوفيا.
قال ديبلوماسي يوناني طلب عدم الكشف عن هويته، لموقع "المونيتور": "في الأعوام الخمسة الماضية، حوّلت تركيا ثلاث كنائس أخرى تحمل اسم آيا صوفيا إلى مساجد، ويستمر كبار المسؤولين في الحكومة التركية في استخدام آيا صوفيا عبر وسائل التواصل الاجتماعي وسواها من المنصّات كورقة مقايضة كلما سارت الأمور خلافاً لتمنّياتهم. إنه صرح ضخم ذو قيمة رمزية كبيرة جداً بالنسبة إلى المسيحيين، لذلك نخشى أن يُضحّى به من أجل سياسات شعبوية".
قال أريس أباسي، وهو باحث في العلاقات التركية-اليونانية، لموقع "المونيتور" إن الفريقَين يتمسّكان بأسلوبهما المعتاد في شن حرب كلامية، لكنه لفت إلى أن ردّ وزارة الخارجية التركية كان مختلفاً هذه المرة: "لأول مرة، نرى أن اللغة الرسمية التركية تعتبر أنه لا يجب تصوير الحداثة بأنها ضد الإسلام. يشير ذلك أيضاً إلى أنها تنظر إلى آيا صوفيا من زاوية دينية حصراً". أضاف أباسي أن الطرفَين يتعاملان مع المسألة انطلاقاً من سياسة التمسّك بالهوية، ما يعني أنه لن يخرج أحد رابحاً من المعادلة.
يوافق أنجيلوس سيريغوس، وهو أستاذ مساعد في القانون الدولي والسياسة الخارجية في جامعة بانتيون في أثينا، على أن مصدر الخوف الأساسي خلف رد الفعل اليوناني هو احتمال أن تتحوّل آيا صوفيا قريباً إلى مسجد. وقد قال لموقع "المونيتور": "السبب خلف تحويلها إلى مسجد سيكون حاجة [الرئيس التركي رجب طيب] أردوغان إلى زيادة شعبيته على مشارف تنظيم استفتاء من أجل اعتماد النظام الرئاسي في تركيا".
تطرّق ريديان كايا، رئيس المنظمة غير الحكومية "أوزغور-دير" وكاتب العمود الخاص في صحيفة "هاكسوز"، إلى المسألة من زاوية مختلفة طارحاً السؤال الآتي: "لماذا ينزعج اليونان إذا كانت مسجداً؟ لم تتحقق الغاية الفعلية منها عند استخدامها متحفاً، لكن كان ذلك مقبولاً. ألا تتحقق الغاية منها عند استخدامها مسجداً؟ لمَ لا؟" أضاف كايا أن معظم الأتراك المحافظين رأوا في تحويل مسجد إلى متحف في ثلاثينيات القرن العشرين بأنه يندرج في إطار قيام الجمهورية الجديدة بتجريد البلاد من طابعها الإسلامي، مشيراً إلى أن "آيا صوفيا ترمز إلى الغزو العثماني. وتحويلها إلى متحف في عهد الجمهورية يُنظَر إليه بأنه إقصاء للإسلام".
قدّم مراد أوزير، رئيس المنظمة غير الحكومية "إيمكاندر" والمؤرّخ الفني، تحليلاً وافياً عن الوضع، قائلاً: "درجت العادة أن يسيطر الغزاة على أماكن العبادة ويحوّلوها إلى أماكن عبادة خاصة بهم. كل الكنائس البيزنطية تقريباً في اسطنبول جرى تبديل وجهة استعمالها، ثم حصل المسيحيون على الدعم من السلطنة لبناء كنائس جديدة. إذاً كل الكنائس الأرثوذكسية الموجودة في اسطنبول شُيِّدت بعد الغزو. لم يهتم الحكّام الجدد بتدمير ما كان موجوداً، بل حرصوا على تحويله جزءاً من التاريخ وإفقاده قدرته على التأثير والسيطرة. الهمّ الأساسي كان تثبيت نفوذ الأمبراطورية وهيبتها في مواجهة الأعداء".
وقد شدّد أوزير على رفضه تحويل المسألة إلى مادّة للسياسة الانتهازية، قائلاً: "تشير الموارد التاريخية إلى أنه عند تأسيس الجمهورية الجديدة، أُقنِعت عن طريق الخداع نوعاً ما بتحويل آيا صوفيا إلى متحف". يقدّم معلّقون كثر حجة مماثلة: يلقي بعضهم اللوم على المؤسسة الكمالية لأنها كانت شديدة التلهّف للانخراط في الحضارة الغربية، فيما يصرّ آخرون على أن القوى الغربية فرضت الأمر بالقوة على تركيا. في الحالتَين، يُنظَر إلى المسألة بأنها قضية استقلال. ومن هذا المنظار، لا يمكن أن يصبح الاستقلال ناجزاً إلا إذا استُخدِمت آيا صوفيا بمثابة مسجد.
أضاف أوزير أن الطريقة الفضلى للحفاظ على مبنى تاريخي هي إبقاؤه قيد الاستعمال. وقدّم في هذا الصدد العديد من الأمثلة المعاصرة عن كنائس في اسطنبول يُستخدَم جزء منها مسجداً والجزء الآخر متحفاً، قائلاً: "منذ تحوّلت آيا صوفيا إلى متحف، تخضع للترميم. لكن عندما كانت مسجداً على امتداد أكثر من 400 عام، لم تتدهور حالتها بهذه السرعة".
قال عالم مسلم طلب عدم الكشف عن هويته، لموقع "المونيتور": "جرى استغلال قضية آيا صوفيا بطريقة معيبة خلال العقد المنصرم. إنهم يحلمون ببعث الأمبراطورية العثمانية من جديد وكأن أحد أبطال البرامج التلفزيونية سيظهر فجأةً ليحوّل آيا صوفيا مجدداً إلى مسجد. يشعر المسلمون الأتقياء في كل مكان بحزن شديد عند مشاهدة هذه البروباغندا الانتهازية".
يبقى السؤال المقلق: هل يمكن أن يقلب أردوغان المعادلةعندما تقتنع أكثرية الرأي العام بأنه لا يمكن لتركيا أن تكون مستقلة ما لم تتحول آيا صوفيا إلى مسجد؟