لم تترك العبوة الّتي انفجرت في شارع فردان - وسط بيروت مساء الأحد في حزيران/يونيو من عام 2016 خسائر كبيرة، إذ اقتصرت على إصابة شخصين بجروح طفيفة، فضلاً عن بعض الأضرار الماديّة البسيطة، غير أنّ تداعياتها السياسيّة والأمنيّة كانت كبيرة جدّاً، وذلك لسببين اثنين: أولّاً لأنّ مكان العبوة لم يكن غير المبنى الرئيسيّ لأحد أبرز المصارف اللبنانيّة، "بنك لبنان والمهجر"، وثانياً لأنّ توقيتها جاء في سياق تجاذب سياسيّ وإعلاميّ كبير بين "حزب الله" من جهة وبين بعض السلطات المصرفيّة والماليّة اللبنانيّة، وذلك على خلفيّة تعاطي تلك السلطات مع قانون "هيفبا" الأميركيّ، ممّا جعل أصداء تلك العبوة الصغيرة تتردّد سياسيّاً على مستوى لبنان كلّه، وحتّى أبعد من لبنان.
ذلك أنّه منذ أسابيع، وخصوصاً إثر صدور التعليمات التنفيذيّة لتطبيق قانون "هيفبا" الأميركيّ لمنع تمويل "حزب الله" في 15 نيسان/إبريل الماضي (راجع مقال المونيتور حولها)، تحوّل الموضوع إلى مادّة صراع في بيروت، فالأمين العام لـ"حزب الله" السيّد حسن نصرالله تناوله مراراً في خطب له، متوقّفاً عند نتائجه، ومحذّراً السلطات اللبنانيّة من تداعياته، فيما اعتبر مصرف لبنان المركزيّ وجمعيّة المصارف اللبنانيّة أنّ لبنان محكوم بتطبيق مضمون القانون الأميركيّ ولا قدرة له إطلاقاً على المخاطرة في التلاعب بأيّ هامش ممّا يفرضه عليه تحت طائلة تعريض أيّ مصرف لبنانيّ للإقفال أو لعقوبات أميركيّة كبيرة.
وخلال الفترة نفسها، عمد الطرفان إلى التحاور مباشرة حول القضيّة، فقام وفد من "حزب الله" قوامه النائب الدكتور علي فيّاض والنائب السابق أمين شرّي بسلسلة لقاءات مع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة ومع جمعيّة المصارف. وكشف أحد المشاركين في تلك اللقاءات لموقعنا أنّها لم تنته إلى نتائج إيجابيّة حاسمة، ذلك أنّ وفد "حزب الله" حمل وجهة نظر واضحة تقول بأنّ أيّ مساس بالحقوق المصرفيّة لأيّ مواطن لبنانيّ هو مسألة سياديّة لا يمكن للبنان كدولة مستقلّة التنازل عنها أو التفريط بها، هذا فضلاً عن أنّ لدى "حزب الله" معلومات موثّقة عن أنّ بعض المصارف اللبنانيّة يذهب في إجراءاته أبعد ممّا يطلبه الأميركيّون، خصوصاً لجهة إقفال حسابات مصرفيّة عائدة إلى أشخاص لم ترد أسماؤهم على لائحة "أوفاك" الّتي حدّدت الشخصيّات الحقيقيّة والمعنويّة المشمولة بقانون "هيفبا"، أو لجهة إقفال حسابات مصرفيّة فوراً من دون الرجوع إلى السلطات اللبنانيّة الرسميّة الممثّلة في مصرف لبنان المركزيّ للتحقّق من صحّة شمول الحساب المقفل بأحكام القانون المذكور.
وفي المقابل، كشف المصدر الّذي طلب عدم ذكر اسمه، أنّ المصارف اللبنانيّة قالت صراحة لوفد "حزب الله" إنّها في كلّ ما يتعلّق بأيّ إلتباس ماليّ – أمنيّ مع واشنطن، تعمل على قاعدة المبالغة في التصرّف، حتّى تكون في مأمن من أيّ تقصير غير مقصود، وأنّ تجارب سابقة علّمتها أنّ الخطأ في المزايدة أميركيّاً هو الضمانة لعدم الوقوع في خطأ نتيحة نقص الإجراءات. كما كشفت المصارف أنّها تطبّق في إجراءاتها تلك ما يصدر عن لائحة "أوفاك"، إضافة إلى ما تطلبه منها المصارف الغربيّة المراسلة لها. فكما هو معلوم في هذا القطاع، يتعامل كلّ مصرف لبنانيّ مع مصرف أجنبيّ مراسل أو أكثر، يودع لديه قسماً من موجوداته. ولذلك، يصير هذا المصرف اللبنانيّ مرتبطاً بإجراءات الحماية الّتي يتّخذها هذا المصرف الأجنبيّ، فضلاً عن مندرجات قانون "هيفبا" ونتائجه، وهذا ما يفسر إجراءات تلك المصارف بحسب وجهة نظرها.
وسط هذا التباين بين "حزب الله" والمصارف، صدر في 8 حزيران/يونيو كلام لحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، ضمن مقابلة مع شبكة "سي.إن.بي.سي" جاء فيه قوله إنّ "مئة حساب مصرفيّ تمّ إقفالها"، وإنّه لا يريد "تمويلاً غير شرعيّ ضمن نظامنا المصرفيّ، ولا نريد أن يكون بضعة لبنانيّين السبب في تسميم صورة لبنان وتشويهها في الأسواق الماليّة"، وهو ما اعتبر انتقاداً لموقف "حزب الله" وغمزاً من قناة أنصاره. ولم يتأخّر الرد، إذ أعلنت كتلة "حزب الله" النيابيّة، "كتلة الوفاء للمقاومة"، في اليوم نفسه وفي بيان رسميّ لها أنّ "استهداف المقاومة وجمهورها عبر القطاع المصرفيّ سيبوء بالفشل ولن يحقّق أهدافه"، وأنّ "الموقف الأخير لحاكم المصرف المركزيّ جاء ملتبساً ومريباً، وهو يشي بتفلّت السياسة النقديّة من ضوابط السيادة الوطنيّة. ولذلك، فإنّنا نرفضه جملة وتفصيلاً. وعلى الجميع أن يدرك أن جمهور المقاومة ومؤسّساته التربويّة والصحيّة عصي على محاولات النيل منه من أيّ كان مهما علا شأنه".
وهكذا صار السجال علنيّاً ومكشوفاً. وفجأة، وبعد 72 ساعة فقط، انفجرت عبوة المصرف في وسط بيروت. وفور وقوع الانفجار، انقسم المزاج الشعبيّ والإعلاميّ بين نظريّتين: أخصام "حزب الله" اعتبروا أنّ ما حصل هو رسالة عنفيّة من قبل التنظيم الشيعيّ إلى السلطات المصرفيّة والماليّة والحكوميّة اللبنانيّة من أجل وقف تعاونها مع السلطات الأميركيّة في تطبيق قانون "هيفبا". أمّا أصدقاء "حزب الله" فاعتبروا الحادث مؤامرة قام بها طرف ثالث لتوريط "حزب الله" واتّهامه والتحريض عليه محليّاً وخارجيّاً، علماً أنّ ظروف الانفجار حملت ما يفيد النظريّتين، فتوقيته مساء يوم أحد، نهار عطلة المصرف، وفي موعد إفطار رمضان الثامن مساء، حيث تخلو منطقة الانفجار كليّاً من العابرين، أدّى إلى التقليل من الأضرار، ممّا أوحى بأنّ المطلوب منه فعلاً مجرّد إيصال رسالة، علماً أنّ "حزب الله" التزم الصمت الكامل حيال الحادثة، فيما أكّدت أوساط سياسيّة قريبة منه ترجيحها أنّه في انتظار رصد مختلف ردود الفعل وأبعاد ما حدث، قبل أن يعلّق عليها في ردّ قد يكون شاملاً.
وفي كلّ الأحوال، وأيّاً كانت فرضيّة من يقف خلف الانفجار، يظلّ الأكيد أنّ تداعياته على الاستقرار المصرفيّ، وبالتّالي الماليّ والإقتصاديّ، ثمّ الاستقرار السياسيّ والأمنيّ للبنان، خطيرة... عبوة صغيرة بتردّدات كبيرة، تلك هي صورة ما حصل.