انشغلت بيروت نهاية النصف الأوّل من شهر كانون الثاني/يناير 2016، بأخبار عن أحداث أمنيّة أو اضطرابات يمكن أن تحدث في لبنان، علماً أنّه في الوقائع العمليّة، لم يسجّل أيّ حادث يذكر. لكن، على الرغم من ذلك، استمرّت التلميحات أو التحذيرات في الإعلام، كما من قبل سياسيّين ودبلوماسيّين. وهو ما أوحى بأنّ الأمر يمكن أن يكون مرتبطاً بأجواء أو تقديرات سياسيّة. فما هي حقيقة الأمر؟
بدأت هذه الموجة بتسريبات إعلاميّة في 13 كانون الثاني/يناير الحاليّ، مفادها أنّ مطار بيروت الدوليّ يشكو من ثغرات أمنيّة في الإجراءات المتّبعة فيه، كما في التجهيزات الموجودة لديه، من أجل ضمان الحماية الكاملة لحركته، وأنّه لذلك لا يزال موضوعاً على اللائحة السوداء الأوروبيّة للمطارات الآمنة للشحن. بعد صدور هذا الكلام، اتّصل موقعنا في اليوم نفسه، بكلّ من وزير الأشغال العامّة والنقل في الحكومة اللبنانيّة غازي زعيتر الذي تتولّى وزارته مسؤوليّة الإشراف على عمل مطار بيروت، كما بمسؤولين عن إدارة الطيران في المطار نفسه. وأبلغ زعيتر موقعنا بأنّه سيعقد مؤتمراً صحافيّاً في المطار مباشرة للردّ على تلك المزاعم غير الصحيحة كما وصفها. غير أنّ مسؤولاً كبيراً في إدارة الطيران المدنيّ، وهي الجهّة التنفيذيّة االعاملة على أرض المطار أكّد لموقعنا، شرط عدم ذكر اسمه، أنّ لديه معلومات مغايرة، ومفادها أنّ شركتي طيران أوروبيّتين على الأقلّ، هما الفرنسيّة "إير فرناس" والبريطانيّة "بريتيش إيروايز"، تلقّتا تحذيرات موثوقة عن احتمال تعرض رحلاتهما إلى مطار بيروت، إلى عمل إرهابيّ، وأنّ مسؤولي هاتين الشركتين أعربا للسلطات الحكوميّة اللبنانيّة، عن قلقهما حيال هذه التحذيرات، وعن إصرارهما على أن تكون إجراءات الأمن والحماية في مطار بيروت في أعلى جهوزيّتها.
في المقابل، عقد زعيتر مؤتمره الصحافيّ في 16 كانون الثاني/يناير الحاليّ لينفي أن يكون مطار بيروت على لائحة أوروبيّة سوداء لجهّة الشحن، وليشير في الوقت نفسه إلى أنّه كان هناك "خلل في العمل في المديريّة العامّة للطيران المدنيّ"، لكنّه أكّد أنّه تمّت معالجته في شكل كامل.
لكن، فيما كان الوزير زعيتر يحاول تقديم التطمينات حول عمل مطار بيروت، جاءت المفاجأة من مكان آخر، إذ وجّه في اليوم نفسه وزير البيئة السابق وئام وهاب، عبر تغريدة له على موقع تويتر، سؤالاً يقول: "هل صحيح أنّ عمليّة اكتشفت لتفجير طائرة "إير فرانس" من قبل "داعش" في مطار بيروت"؟ التغريدة الصادمة استدعت على الفور ردّاً من وزارة الداخليّة اللبنانيّة، التي أصدرت بعد ساعات قليلة بياناً رسميّاً نفت بموجبه أن يكون قد تمّ الكشف عن أيّ عمليّة إرهابيّة ضدّ أيّ رحلة مقرّرة من مطار بيروت أو إليه. لكنّ البيان نفسه عاد وأشار إلى أنّ المطار كان موضع تدقيق من قبل الشركات الأجنبيّة التي تستخدمه، وأنّ هناك مسائل تقنيّة قد تمّت معالجتها. لكنّ الوزير وهاب عاد ليردّ على بيان وزارة الداخليّة بتغريدة أخرى يؤكّد فيها مجدّداً وبمزيد من التفاصيل، أنّ "العمليّة كانت ستتمّ في 8 كانون التاني/يناير وشبيهة بعمليّة تفجير الطائرة الروسيّة، وكشفتها الأجهزة الأميركيّة وأبلغت الفرنسيّين"، قبل أن يتابع في تغريدة ثانية أنّه "لم يتمّ اختراق المطار لكنّ العمليّة اكتشفت في مرحلة التحضير". ومع إشارة وهاب إلى أنّ معلومات أمنيّة أميركيّة كانت خلف اكتشاف العمليّة الإرهابيّة التي أشار إليها، عادت الأنظار إلى زيارة كان قد قام بها القائم بأعمال السفارة الأميركيّة في بيروت ريتشارد جونز، إلى وزير الخارجيّة اللبنانيّة جبران باسيل في اليوم السابق، في 15 كانون الثاني/يناير الجاري. وقد سئل جونز من الصحافيين في وزارة الخارجية عقب الزيارة، عمّا إذا كان لديه قلق حيال الوضع الأمنيّ في لبنان، فأجاب: "مع الأسف، في الوقت الراهن لدينا مخاوف من الوضع تقريباً أينما كان في العالم. لقد شهدنا أخيراً حادثة مأساويّة في جاكارتا في 14 كانون الثاني/يناير 2016، وكلّنا نعلم بالتأكيد أنّه سبق أن شهد لبنان حادثة مماثلة في برج البراجنة في 12 تشرين الثاني/نوفمبر 2015، ومن ثمّ في باريس في 13 تشرين الثاني/نوفمبر 2015 ودول أخرى من العالم. لذا لدينا دائماً قلق أمنيّ، لكنّنا متأكّدون أنّ التعاون الفاعل مع لبنان هو لصالح الشعب اللبنانيّ، ولصالح الأميركيّين والأجانب المقيمين في لبنان". وهو ما بدا كلاماً يمكن أن يتقاطع مع المعلومات التي أشار إليها الوزير وهاب. لكنّ الوزير باسيل أكّد لموقعنا أنّ محادثاته مع السفير جونز في تلك الزيارة، لم تتناول الشأن الأمنيّ إطلاقاً لا من قريب ولا من بعيد.
ولمتابعة الموضوع، أجرى موقعنا اتّصالاً هاتفيّاً بالوزير وهاب، لاستيضاحه حول مصدر المعلومات التي كشفها ومدى دقّتها. فأشار أوّلاً إلى أنّ معلوماته "مستقاة من مصادر أمنيّة رسميّة معنيّة مباشرة" بمضمون ما كشفه، وأنّ "مقدار الصدقيّة لتلك المصادر كما لمعلوماتها عالي جدّاً". وأضاف أنّ ما يؤكّد ذلك أنّ وزارة الداخليّة ردّت على تغريدته الأولى التي جاءت في صيغة سؤال. لكن عندما كشف في تغريدته الثانية أنّ العمليّة الإرهابية التي أشار إليها كشفت وهي في مرحلة التحضير، وأنّها كانت محدّدة في 8 كانون الثاني/يناير، لم تصدر وزارة الداخليّة أيّ رد آخر عليه!
بعيداً عن الوقائع الأمنيّة لكلّ ما سبق، يبدو أنّ أكثر ما يعطي هذه المسألة منسوباً من الصدقيّة لدى الرأي العام، هو الأزمة السياسيّة المستمرّة في لبنان منذ الشغور الرئاسيّ في 24 أيّار/مايو 2014. فهي ما يجعل البعض يفكّر بأنّ سيناريو تفجير أمنيّ ممكن في بيروت، وذلك من أجل إحداث ثغرة ما في جدار المأزق السياسيّ الراهن، بحيث تأتي الأحداث الأمنيّة لتفرض على اللبنانيّين القبول بأيّ مسعى خارجيّ لتسوية شاملة تتضمّن انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة.
فسنة 1988، حصل شغور رئاسي، لم ينته إلا بعد حرب استمرت سنتين، بين اللبنانيين، كما بين اللبنانيين والسوريين. وفي العام 2007 حصل شغور رئاسي ثان، لم ينته هو أيضاً، إلا بعد أحداث عسكرية بين السنة والشيعة في بيروت في 7 أيار 2008. سابقتان كافيتان لتكرسا انطباعاً لدى بعض اللبنانيين، بأن نهاية الشعور الرئاسي، تعني حكماً وقوع أحداث أمنية أو عسكرية. وأن أحداثاً كهذه، يتم تحضيرها وفق "نظرية المؤامرة"، للوصول إلى الحل الرئاسي المطلوب!