القاهرة – في 9 أيلول/سبتمبر الماضي، أعلن وزير الآثار المصريّ الدكتور ممدوح الدماطى في تصريحات صحافيّة عن رغبة الوزارة في إنشاء متحف للآثار الغارقة تحت الماء، ليكون المتحف الأوّل على مستوى العالم، يجسّد الحضارة المصريّة القديمة في متحف واحد تحت الماء، على أن يقع مكانة بمحافظة الأسكندرية، بتكلفة تصل إلى 150 مليون دولار.
"المتحف سيغيّر شكل المنطقة العربيّة، لأنّه الأوّل من نوعه على مستوى العالم، وبالطبع سينعش حركة السياحة، وينهض بالاقتصاد المصريّ بعد حالة الركود التي عانى منها أخيراً". بهذه الكلمات روّج رئيس الإدارة المركزيّة لآثار الوجه البحريّ لمشروع إنشاء المتحف الدكتور يوسف خليفة، أثناء حديثه إلى "المونتور".
وأكمل: "من المقرّر أن يتكوّن المتحف من جزئين، جزء فوق سطح المياه يعرض الأجزاء التي تمّ انتشالها، والجزء السفليّ، تحت سطح المياه، و يمتدّ على مسافة 7 أمتار لباقي الأجزاء التي لم يتمّ انتشالها، وسيتمكّن الزوّار من مشاهدة الآثار إمّا عن طريق الغوص أو من خلال السير داخل أنابيب زجاجيّة، بحيث تكون رحلات غطس لمن يريد مشاهدته ويستطيع القيام بذلك، إلى جانب غوّاصات زجاجيّة تتحرّك بالسيّاح لمشاهدة الآثار داخل هذا المتحف".
وقال: "أيضاً، سوف يشمل أربع مبانٍ طويلة تحت الماء على شكل أشرعة مراكب نيليّة متّصلة ببعضها البعض على مساحة 22 ألف متر مربّع، ومصطفّة في شكل دائرة قطرها 40 متراً، وسيتّسع المتحف إلى 3 مليون زائر سنويّاً".
إلّا أنّ هذه الفكرة، وعلى الرغم من أهميّتها، لم تكن الأولى من نوعها، فقد سبق وأعلنت وزارة الآثار في 1 تشرين الأوّل/أكتوبر 2008، أيّ قبل 8 سنوات، ممثّلة في أمين المجلس الأعلى للآثار الدكتور زاهي حواس آنذالك، عن الانتهاء من دراسة الجدوى التي أعدّها المعهد الأوروبّي للآثار الغارقة، تحت إشراف منظّمة اليونسكو، للبدء في إنشاء المتحف.
وفي خطوة داعمة للمشروع، أوفدت اليونسكو في 27 أيّار/مايو 2010، إلي مصر لجنة استشاريّة علميّة دوليّة تضمّ عدداً من الخبراء الدوليّين المرموقين لمسايرة إعداد دراسة الجدوى، للبدء الفوريّ في تشييد المشروع، إلّا أنّ أحداث ثورة 25 يناير التي اندلعت في مصر، أدّت إلى توقّف المشروع، بعدما عمّت الفوضى البلاد وتراجع الاقتصاد وانعدم الأمن فيها.
إلّا أنّ اليونسكو عاودت الاهتمام مرّة أخرى بفكرة إنشاء المتحف، في 2 أيلول/سبتمبر 2013، بعد مرور عامين على الثورة المصريّة، لترسل نخبة من الأثريّين الدوليّين، لدراسة مكان إنشاء المشروع في منطقة الميناء الشرقيّ في وسط الإسكندريّة، ومناقشة تأثيراته الاقتصاديّة والثقافيّة.
ويأتي اختيار محافظة الإسكندريّة لإنشاء متحف للآثار الغارقة تحت الماء، لما تحويه من كنوز أثريّة غارقة تحت سطح البحر، حيث يوجد فيها الحيّ الملكيّ الغارق أو "قصر كليوباترا"، الذي يقع على عمق 6 و8 أمتار، كما توجد فيها منارة الإسكندريّة والتي تعدّ إحدى عجائب الدنيا السبع في العالم القديم، وتقع على عمق 5 و10 أمتار، كما يوجد فيها قلعة قايتباي الأثريّة، التي تعدّ من أهمّ المناطق التي تقبع تحت مياهها آثار تعود إلى الحضارتين القديمتين اليونانيّة والرومانيّة.
وعلى الرغم من وجود هذه الكنوز الأثريّة الغارقة منذ آلاف السنين، إلّا أنّ وزارة الآثار، لم تتمكّن من إنقاذها أو الاستفادة منها، أو حتّى حمايتها. ففي 1 تشرين الأوّل/أكتوبر 2013، ناقش عدد من الآثريّين المصريّين سبل التصدّي لها وحمايتها، بعد تعرّضها إلى العديد من السرقات من تحت الماء وتهريبها إلى الخارج، في ندوة عقدت في نقابة الصحافيّين.
وهو ما اعترف به مدير الإدارة العامّة للآثار الغارقة في وزارة الآثار الدكتور محمّد مصطفى، قائلاً لـ"المونيتور": "نعترف بأنّ هناك سرقات تتعرّض إليها الآثار الغارقة، ولكنّها ليست في الصورة التي يتخيّلها البعض، خصوصاً أنّ سرقة الآثار من تحت الماء، تتطلّب استعدادات كبيرة، ومركب، وغطّاسين، وهو ما يقلّل من تعرّضها إلى السرقة، على عكس الآثار الأخرى التي تتعرّض إلى سرقات أكثر بكثير منها".
وقال مصطفى لـ"المونيتور": "التنقيب عن الآثار تحت الماء واستخراجها، ليس أمراً سهلاً كما يبدو للبعض، فالرحلة تبدأ في البحث عن الآثار باستخدام بعض الأجهزة الحديثة في تحديد المواقع الآثريّة مثل فاحص الأعماق، وجهاز قياس المدى وكاشف المعادن، وجهاز رصد المواقع وتحديدها المتّصل بالأقمار الصناعيّة أو بالأطباق الغائصة. ثمّ يأتي بعدها الغطّاسون مزوّدين ببزّات الغطس المطّاطيّة ومصدر قويّ للإضاءة، ومضخّات ماصّة أو كابسة للتعامل مع الموقع الأثريّ، لتبدأ بعدها عمليّة انتشال القطع الأثريّة عن طريق رفعها إلى سطح السفينة أو الموقع الثابت بمضخّات أو حبال أو بالونات هوائيّة، لذلك سرقة الآثار تحت الماء أصعب بكثير من سرقتها على السطح".
وأشار مصطفى في حديثه إلى "المونتور" إلى أنّ "هذه الرحلات ترتكز على الآثار التي لا يزيد عمقها عن الـ200 متر تحت المياه، حتّى لا تكون مطمعاً لأحد، أمّا دون ذلك، نتركها إلى حين إنشاء المتحف وعرضها فيه".
واعتبر مصطفى أنّ "المشكلة الجوهريّة هي تلوّث المياه في الإسكندريّة، لأنّه لا يؤدّي إلى تعكير المياه فقط، وإنّما قد يجعل من الصعب رؤية التراث الأثريّ المغمور الذي تحضنه وتلفّه ومحو ملامحه، خصوصاً وإن كان راقداً في المياه منذ عشرات السنين".
ووقّعت مصر على اتّفاقيّة اليونسكو في شأن حماية التراث الثقافيّ المغمور بالمياه في عام 2001، والتي تتضمّن الحفاظ على التراث الثقافيّ المغمور بالمياه وحمايته من أيّ سرقة أو تعدّيات.
عن الأسباب الحقيقيّة وراء تأخّر إنشاء المتحف هذه السنوات، قال مصطفى لـ"المونيتور": "نحتاج إلى إرادة حقيقيّة من الدولة، وتعاون الجهّات كافّة لإنجاز الدراسات اللازمة لإنشائه، من النواحي الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وتأثير الرياح والأمواج. فهذا العمل لا يعتمد على وزارة الآثار فقط، معتبراً أنّه على الرغم من التكلفة الضخمة للمشروع والتي قد تتجاوز الـ150 مليون دولار، إلّا أنّه ليس عائقاً فى ظلّ تعاون اليونسكو، والعديد من الدول الأجنبيّة لتمويله، لأنّه سيخدم العالم كلّه وليس مصر فقط".