بغداد، العراق - في 30 آذار/مارس، تسلّم مركز شرطة في بابل (100 كلم جنوبيّ بغداد) بلاغاً من مجهول يفيد بوجود طفل مرميّ في القمامة، فأسرعت مفرزة للشرطة إلى المكان المقصود، حيث عثرت على طفل حديث الولادة داخل صندوق من الكارتون مغطّى بقطعة من القماش. وتمكّن الشرطيّ أحمد حسن من نقل الطفل إلى المستشفى، وهناك دلّت الفحوص الطبيّة الّتي أجريت له أنّ الطفل ولد قبل ساعات قليلة .وهذه الحادثة الّتي رصدها "المونيتور" ليست الأولى، فبين الحين والآخر يعثر في مناطق العراق المختلفة على أطفال "مجهولي النسب" يطلق عليهم المجتمع اسم "لقيط".
ففي أيّار/مايو من عام2011 ، عثر على طفل وليد في أحد مستشفيات أربيل، كتب على جسده كلمة "لقيط".
وتعني كلمة "لقيط" باللّغة العربيّة التقاط شيء بصورة مفاجئة أو العثور عليه في مكان ما، فهذه المفردة أصبحت مع مرور الزمن تدلّ على الطفل المجهول النّسب، الّذي تلقي به والدته في الشارع تخلّصاً منه أو تخلّصاً من فضيحة أخلاقيّة. وفي عام 2012، عثر على طفلة بمكبّ نفايات في كركوك.
ويقول الضابط في مركز شرطة بابل فاضل عباس، للمونيتور في 30/8 في بابل، إنّ "الكثير من الأطفال يموتون ولا نعرف عن اصولهم شيئا".
ووفق الثقافة الإجتماعيّة العراقيّة، يعدّ اللّقيط عاراً، وهو نتاج علاقات جنسيّة محرّمة. وإذا ما كتبت له الحياة، وتعرّف على شخصه حقّاً، فإنّه يسعى إلى إخفاء حقيقته، وإلاّ فإنّ المجتمع سينبذه.
وهذه الحقيقة أكّدتها الباحثة الإجتماعيّة ومدرّسة "مادة الاجتماعية" علياء الموسوي لـ"المونيتور"، إذ قالت: إنّ"الأم تسعى إلى التخلّص من الطفل بالسرعة الممكنة، برميه في مكان مهجور، لأنّ افتضاح أمرها يعني قتلها من قبل أهلها لا محال، وقد حدث ذلك في أوقات كثيرة".
وفي واقع الحال، إنّ المجتمع المحافظ كالمجتمع العراقيّ لا يتسامح مع اللّقيط ولا مع أمّه، ويحكم على من ارتكب العلاقات الجنسيّة المحرّمة بالقتل في الكثير من الأحيان، وإذ تقتل الأمّ، ينبذ الابن ويحتقر.
والمثير في الأمر أنّ رجال الدين يصطفّون مع هذا الموقف الأخلاقيّ المتزمّت، كما يدلّ على ذلك رجل الدين علي السعبري من بابل، الّذي قال لـ"المونيتور": "الانحراف الأخلاقيّ للفتيات وانتشار الرذيلة في المجتمع وعدم اتباع تعاليم الدين يؤدّي إلى جريمة الزنا".
ومن الواضح أنّ عقوبة الزنا عند افتضاحها هي الموت. ونتيجة لهذه المواقف الإجتماعيّة والدينيّة الصارمة، لقد قتلت الكثير من الفتيات تحت ذريعة "غسل العار" الّذي يلحق بأهاليهنّ، بعد اكتشاف إقامتهنّ علاقة جنسيّة محرّمة .
وفي الغالب، تخفى الجريمة والوقائع الحقيقيّة تحت مزاعم انتحار الفتاة أو إحراقها لنفسها، تخلّصاً من العقوبة القانونيّة لجريمة القتل، وهي الحبس مدّة لا تزيد عن ثلاث سنوات، وفق المادّة 409 من قانون العقوبات العراقيّ.
ففي مدينة المحموديّة بجنوب بغداد، افاد تقرير صحافي ان فتاة قتلت على يدّ إخوتها، في 2فبراير/شباط 2011 لكنّ تقرير الشرطة يقول إنّها انتحرت وأهل القرية يعرفون من يقف وراء قتلها.
وأمام هذه المآسي المستمرّة، سعت هيئة رعاية الطفولة في وزارة العمل والشؤون الإجتماعيّة العراقيّة، في 26 حزيران/يونيو من عام 2014 إلى إطلاق تسمية كريم النسب على "اللّقطاء" ، بحيث تصبح تسمية رسمية معتمدة في دوائر الدولة الرسمية، بدلا من اسم لقيط الذي يحمل مدلولات سيئة ومعيبة، في محاولة لإثارة الاهتمام وإشعار اللّقيط بالرعاية، لتخفيف الشعور بفقدان الأم والأب، إلاّ أنّ علياء الموسوي تعتقد أنّ "هذه المحاولة على الرغم من إيجابيّتها، إلاّ أنّها لن تغيّر الكثير من النّظرة الدونيّة إلى "اللّقيط" في المجتمع العراقيّ".
ونبّهت الموسوي إلى المفارقة التالية، وهي أنّه "من الصعوبة إيجاد شخص أصله لقيط، لأنّ هؤلاء في الغالب حين يكبرون لا يظلّون في المنطقة الّتي ترعرعوا فيها، بل يهربون من المجتمع المحيط بهم، ويفضّلون الانتقال إلى مدينة أخرى لا يعرفهم فيها أحد".
وعلى عكس التسميات الجميلة الّتي لا تصمد ، هناك محاولة أخرى لإنقاذ الأطفال اللّقطاء، وهي بتشجيع ثقافة "التبنّي"، وفق ضوابط قانونيّة تحفظ حقوق كلّ الأطراف، حيث يلجأ أزواج لا يمتلكون القدرة على الإنجاب إلى تبنّي طفل مجهول النسب.
لقد تبنّت أمينة حاتم من محافظ بابل، طفلة بسبب عدم قدرتها على الإنجاب، وهي المتزوّجة منذ نحو ثلاثة عقود، فهذا ما صرّحت به لـ"المونيتور". ورغم أنّ ذلك يعدّ مؤشراً إيجابيّاً، غير أنّ الموظّف في دار رعاية الأيتام في بابل حيدر حسن أكّد لـ"المونيتور أنّ "الطفل بالتبنّي، مازال يعاني من نظرة دونيّة لأنّ المجتمع يعرف أنّه طفل مجهول الأبوين البيولوجيّين".
ولقد أدّت ظاهرة قتل الفتيات الزانيات إلى حصول مبادرات فرديّة في التّوعية بضرورة عدم اللّجوء إلى ما يسمّى بـ"جرائم الشرف"، الّتي تقتل فيها المرأة الّتي تمارس علاقات جنسيّة محرّمة. وتمّ إنشاء صفحة تفاعليّة في موقع التّواصل الإجتماعيّ "فيسبوك" تحمل اسم "معاً لإيقاف جرائم القتل غسلاً للعار" تدعو إلى إيقاف قتل النساء تحت ذريعة الحفاظ على شرف العائلة، وهناك أيضاً دور رعاية راحت تستقبل "الّلقطاء"، الذين يُرمون خفية في الأماكن العامة، فيتم رعايتهم و تنشأتهم وتهيئة فرص تعليمهم في المدارس الى ان يكبروا، او تحين فرصة تبنيهم من قبل أسرة.
غير أنّ ظاهرة رمي الأطفال في الأماكن المهجورة أو في القمامة ما زالت مستمرّة، ممّا يتطلّب جهوداً حكوميّة في دعم الأسر على احتضان اللّقطاء وتربيتهم، والاستعانة بأصحاب الاختصاص من باحثين إجتماعيّين للتوصّل إلى الحلول اللاّزمة لوقف هذه الظاهرة والقيام بحملة توعية لتنقية الثقافة الإجتماعيّة من النّظرة الدونيّة المسدّدة لأطفال أبرياء .