فاطيما، البرتغال - كأنّ المسيحيّين في لبنان قد فقدوا الأمل من السياسة والسياسيّين، فلجأوا إلى الإيمان والدين، إنّه الانطباع الأوليّ الّذي قد يتكوّن حيال الخطوة الّتي قرّرتها الكنائس الكاثوليكيّة في لبنان، لجهة "تكريس هذا البلد لقلب العذراء مريم سيّدة فاطيما"، مع انتقال شخص يمثّل سيّدة فاطيما من مقرّه في البرتغال إلى لبنان، ليجوب مختلف المناطق ويزور أربعاً من بطريركيّاته الكاثوليكيّة، وسط انتظارات دينيّة وسياسيّة أيضاً.
وكان موقع "المونيتور" قد رافق الوفد الكنسيّ، الّذي سافر خصوصاً من بيروت إلى لشبونة الخميس في 10 يونيو/حزيران الجاري، ليتسلّم شخص العذراء ويتولّى نقله إلى العاصمة اللبنانيّة ويكون مسؤولاً عن جولته طيلة أربعة أيّام في بلاد الأرز، من 12 يونيو/حزيران الجاري حتّى 16 منه. ويتألّف الوفد من النّائب البطريركيّ للسريان الكاثوليك المطران أنطوان بيلوني رئيساً للبعثة والأمين العام لمجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في الشرق الأب العام خليل علوان، إضافة إلى مسؤولين كنسيّين وعلمانيّين آخرين.
ولا ينفي أعضاء البعثة الطّابع الوطنيّ العام للخطوة، خصوصاً بعد ما قررت الحكومة اللبنانيّة منذ ستة أعوام، إعلان يوم بشارة العذراء مريم، عيداً وطنيّاً جامعاً للمسيحيّين والمسلمين، وذلك لكون قرآن المسلمين يفرد سورة كاملة وآيات كثيرة لتكريم مريم العذراء، ولكن معظم أعضاء الوفد يرفض أن يضع زيارة الشخص المريميّ تحديداً في سياق اليأس من السياسة واللّجوء إلى الدين، كوسيلة أخيرة للخلاص من الأزمة اللبنانيّة الرّاهنة، غير أنّ الأسقف بيلوني مثلاً، وأيضاً الأب العام علوان والإكليريكيّين الآخرين المشاركين في الوفد، لا ينفكّون يتحدّثون عن معانى اللّجوء إلى سيّدة فاطيما تحديداً لا سواها من مقامات السيّدة العذراء الشهيرة حول العالم، ويشرحون بالتّفصيل دلالات هذا المقام تاريخيّاً، ويروون مثلاً كيف أنّ الظهور الأوّل للعذراء في هذا المكان كان أثناء الحرب العالميّة الأولى سنة 1917، وكيف أنّها تنبّأت للأطفال الّذين التقتهم يومها عن روسيا المتحوّلة في حينه إلى الشيوعيّة، وكيف أنّ تكريس روسيا للعذراء سيكون المدخل الحتميّ من أجل إعادتها إلى المسيحيّة. ولا تنتهي الأبعاد "السياسيّة" لعذراء فاطيما عند هذا الحدّ، بل يروي مسؤولو الوفد الكنسيّ اللبنانيّ، كيف أنّ تكريس البرتغال نفسه لتلك العذراء سنة 1938، هو ما جنّب هذا البلد ويلات الحرب العالميّة الثانية، ثمّ كيف أنّ عذراء فاطيما هي من أنقذت البابا الرّاحل يوحنا بولس الثاني من الموت يوم حاول محمّد علي أقجا اغتياله في عيد ظهورها، في 13 مايو/أيّار من عام 1981، كما آمن وأعلن مراراً هو نفسه. وبعدها، كيف قرّر البابا البولونيّ تكريس روسيا والعالم لعذراء فاطيما نفسها، في مارس/آذار من عام 1984، وهو ما مهّد – بحسب الكنسيّين أنفسهم – لسقوط الشيوعيّة في موسكو بعد أعوام قليلة.
وأكثر من ذلك، يقول أحد أعضاء الوفد من الكنسيّين، قبل أقلّ من عامين، حين اندلعت أزمة الأسلحة الكيماويّة في سوريا، وخيّل للعالم أنّنا على أبواب حرب كونيّة ثالثة، ما الّذي حال دون السقوط في ذلك المنزلق؟ إنّها الخطوة الّتي قام بها البابا فرنسيس، يقول المسؤول الكنسيّ نفسه، حين طلب تخصيص يوم للصلاة للعذراء من أجل إنهاء الحرب والعنف في سوريا، كلّ هذه الأبعاد تبدو حاضرة في أذهان الوفد القادم من بيروت إلى فاطيما لاصطحاب شخص العذراء. كما تبدو ماثلة في تفكير المسؤولين الكنسيين الّذين اتّخذوا القرار بتنفيذ تلك الخطوة. ويروي الأب العام خليل علوان، أنّ الطلب بانتقال شخص عذراء فاطيما إلى لبنان جاء من أربع بطريركيّات كاثوليكيّة في لبنان، وهي: المارونيّة، الروم الكاثوليك، السريان الكاثوليك، والأرمن الكاثوليك. وستحلّ العذراء على تلك البطريركيّات الأربع أثناء جولتها اللبنانيّة، ولكن حلولها لن يكون مجرّد طقس ليتورجيّ، إذ يضيف المطران بيلوني، أنّ في البطريركيّة المارونيّة سيعلن تكريس لبنان لقلب العذراء، تماماً كما فعل البرتغاليّون سنة 1938، وفي بطريركيّة الأرمن الكاثوليك ستكون صلاة من أجل المسيحيّين في سوريا، وبالتّالي لطلب شفاعة العذراء كي تحمي سوريا. ويتابع الأسقف بيلوني، أنّ الأمر نفسه سيتمّ من أجل العراق ومسيحيّيه في محطّة بطريركيّة السريان الكاثوليك، لتكون بقيّة المحطّات موزّعة على مختلف الأراضي اللبنانيّة، ومناسبة لتبارك العذراء كلّ المؤمنين.
ويكشف الكاهن سليم رعيدي والأخ عمانوئيل، عضوا الوفد والناشطان في تنظيم الحدث الكنسيّ، أكثر عن الهاجس الوطنيّ خلف الزيارة، فهما يؤمنان بأنّ وجود شخص عذراء فاطيما في لبنان وتكريس البلد لها، سيؤدّيان سريعاً إلى حلّ الأزمة اللبنانيّة المتمادية، وحتّى إلى انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة في أقرب وقت. ويروي الإكليريكيّان أنّ الجولة المقرّرة قصدت أصلاً تحقيق هذا الهدف. حتّى أنّ المنظمين حاولوا إدراج محطّة لتطواف الشخص المريميّ في القصر الجمهوريّ الشاغر، غير أنّ المسؤولين الحكوميّين لم يسمحوا بذلك. وبعدها، تحوّل المنظّمون نحو "هدف رئاسيّ" آخر، فقرّروا أن يتوقّف شخص العذراء أمام البرلمان اللبناني الأحد في 14 يونيو/حزيران، بحيث تكون زيارتها لساحة البرلمان، نعمة إلهيّة كافية لينتخب النوّاب اللبنانيّون رئيساً جديداً للجمهوريّة قريباً جدّاً، كما يؤمن رعيدي وعمانوئيل.
ولا يذهب أحد أعضاء الوفد الكنسيّ في حماسه وإيمانه المطلق إلى هذا الحدّ، إذ يقول بواقعيّة: في النهاية، شعبنا المسيحيّ يجتاز ظروفاً عصيبة في لبنان وكلّ المنطقة، وقد يكون مقبلاً على مراحل أشدّ خطورة وخوفاً. وفي حالات كهذه، يكون الإيمان مفيداً. قد لا ننتظر حلولاً عجائبيّة من عذراء فاطيما، ولكن يكفي أن يحسّ المسيحيّون واللبنانيّون بأنّهم في حمايتها، لتصير قدرتهم أكبر على مواجهة الأزمات، أو على الأقلّ، على تحمّلها، في انتظار ظروف أفضل أو حلول أفعل.