تعيش بيروت هذه الأيّام حالة من الانتظار، وخصوصاً من التجاذب بين الإحساس بالأمل أو عكسه، حول احتمال انتخاب رئيس جديد للجمهوريّة. أمّا الدافع المستجدّ إلى هذا الأمل الهشّ، فمرتبط بعاملين اثنين، داخليّ وخارجيّ. الأوّل كان عودة رئيس الحكومة االلبنانيّة الأسبق سعد الدين الحريري، إلى لبنان في 2 آب/أغسطس الجاري، بعد غيابه عنه طيلة أكثر من ثلاث سنوات. أمّا الثاني فهو إقصاء نوري المالكي عن رئاسة الحكومة العراقيّة. أمّا، كيفيّة تبديل هذين الحدثين لمعطيات الأزمة الرئاسيّة اللبنانيّة، فمرتبط بهذا الاقتناع الراسخ لدى غالبيّة اللبنانيّين، بأنّ أيّ تفصيل مرتبط بإدارة شؤونهم الداخليّة، إنّما يقرّر في الخارج، لا بل الخارج هو من يقرّره.
كان زعيم الأكثريّة السنّية الحريريّ الشاب قد غادر بيروت بعدما خسر رئاسته للحكومة اللبنانيّة في كانون الثاني/يناير 2011. تمكّن يومها تحالف القوى السياسيّة الشيعيّة مع زعيم الأغلبيّة المسيحيّة، الجنرال ميشال عون، وبالاتّفاق مع زعيم الأكثريّة الدرزيّة وليد جنبلاط، من تشكيل أكثريّة نيابيّة أطاحت بحكومة الحريري وجاءت بحكومة ترأّسها نجيب ميقاتي. غير أنّ التفسير اللبنانيّ لذلك الحدث، لم يقتصر على تلك الحسابات البرلمانيّة، بل اعتبر الأمر انقلاباً إيرانيّاً - سوريّاً على السعوديّة في بيروت، في ظلّ صمت أميركيّ، وقيل أنّ اتّفاقاً أميركيّاً - سوريّاً - إيرانياً حصل أواخر العام 2010، أوصل المالكي إلى السلطة في بغداد وأسقط الحريري في بيروت. ولأنّ التعاطي السياسيّ في الشرق الأوسط غالباً ما يتّخذ أشكالاً عنفيّة، قرّر الحريري عندها مغادرة لبنان. وبعدما طال غيابه، بدأت التفسيرات تلمّح إلى أنّ "أمن الرجل غير متوافر في بيروت وأنّ حياته مهدّدة في حال عودته".
مرّت أعوام ثلاثة وبضعة أشهر، تبدّل خلالها بعض المعادلات اللبنانيّة كما الإقليميّة. استقالت حكومة ميقاتي في آذار 2013، وشكّلت حكومة في شباط 2014، وبدأ الاستحقاق الرئاسيّ اللبناني يقترب في ربيع هذا العام، قبل أن تنتهي ولاية الرئيس في 25 أيّار الماضي، ولا خلف له، فتبدأ الأزمة. غير أنّ اجتياح تنظيم "الدولة الإسلاميّة" شمال غرب العراق في 10 حزيران/يونيو الماضي، فرض مشهداً جديداً في المنطقة. فصار الكلام في بيروت، أنّ الحلّ اللبنانيّ عليه أن ينتظر التوافق حول الحكومة العراقيّة. فإذا أصرّت طهران على إبقاء المالكي، فذلك يعني تصلّباً إيرانيّاً سيواجه بتصلّب أميركيّ - سعوديّ في بيروت. أمّا العكس، فيعني ثغرة في جدار الصراع الإيرانيّ - السعودي،ّ يمكن أن تنعكس إيجاباً وحلحلة لبنانيّة. هكذا، وخلال أسبوع واحد، رصد اللبنانيّون الإشارتين: عودة الحريري واستبدال المالكي. فسارعوا إلى إعطاء تفسيرهم الخاصّ للأمر: هذه بداية التوافق المنتظر. إنّه التقاطع السعوديّ - الإيرانيّ برعاية أميركيّة على محاربة خطر "الدولة الإسلاميّة"، الذي أمّن غطاء أمنيّاً سمح بعودة الحريري إلى بيروت، والذي توالى بانطلاق حكومة غير استفزازيّة في بغداد، وهو ما سيصل في إحدى حلقاته التالية إلى انتخاب رئيس جديد في بيروت.
هذا الانطباع اللبنانيّ المتفائل، تحرص الجهّات السياسيّة والدبلوماسيّة المطّلعة على التخفيف منه. فلجهّة عودة الحريري، تؤكّد أوساط فريقه لموقعنا، أنّها "تمّت بمعزل عن أيّ عامل سياسيّ خارجيّ آخر". وهو ما قصد التعبير عنه، حين أعلن بعد عودته أنّ "لا لزوم للقاء الأمين العام لحزب الله السيّد حسن نصرالله". في المقابل، تؤكّد أوساط قريبة من الحزب لموقعنا الانطباع نفسه، وتقول إنّ "الأوساط القياديّة في التنظيم الشيعيّ الأقوى في المنطقة، انكبّت طيلة أيّام على التدقيق في كلّ ما هو مرتبط بعودة الحريري: قراءة كلّ كلمة قالها في بيروت، التأكد من المعطيات الدبلوماسيّة المرتبطة بعودته، دراسة الرسائل غير المباشرة التي وجّهها الحريري إلى الحزب ... قبل أن يصدر قراراً من قيادته بتجاهل العودة كليّاً وعدم الإشارة إليها لا سلباً ولا إيجاباً، وعدم صدور أيّ بيان رسميّ عن حزب الله أو أيّ موقف عن أيّ من مسؤوليه، يشير إلى الخطوة الحريريّة، وهو ما يخفّض الرهانات على انفراج أكبر".
أمّا الحدث العراقيّ، فقد حرصت أوساط دبلوماسيّة شرق أوسطيّة في بيروت، على التعامل معه بالطريقة نفسها، إذ أكّدت لموقعنا، أنّ "إزاحة المالكي في بغداد، ليست مرتبطة بتقاطع إيرانيّ - عراقيّ، بقدر ما هي نتيجة حسابات وعوامل عراقيّة داخليّة". وتتابع الأوساط الديبلوماسيّة التي طلبت عدم الكشف عن هويّتها: "في الأسبوعين الماضيين، تكثّفت حركة اتّصالات دوليّة حول الوضع العراقيّ، وتفاقم خطر "الدولة الإسلاميّة" المتدحرج شمالاً نحو إربيل وشرقاً نحو بغداد نفسها، غير أنّ ما حسم مصير المالكي في النهاية هو موقف المرجع الشيعيّ علي السيستاني، الذي استقبل خلال أيّام قليلة قائد فيلق القدس، قاسم سليماني، تلاه أمين المجلس الأعلى للأمن القوميّ الإيرانيّ علي شمخاني، ليفاجأ المسؤولين الإيرانيّين بموقف حاسم من السيستاني: لا للمالكي، مع ما لهذا الموقف الصلب من معانٍ وانعكاسات، على الساحة العراقيّة، كما على المستوى الشيعيّ بين بغداد وطهران. وهو ما أدّى إلى حسم القضيّة وإنهاء البحث وتسمية حيدر العبادي لرئاسة الحكومة العراقيّة".
هكذا، تميل القراءات الموضوعيّة إلى التخفيف من رهانات التفاؤل. فعودة الحريري ليست نتيجة اتّفاق إيرانيّ - سعوديّ، وإزاحة المالكي ليست خطوة أولى في سياق صفقة شاملة كهذه. لكنّ على الرغم من ذلك، لا يزال الكثير من اللبنانيّين يصرّ على التفاؤل، وعلى أنّ الحلّ الأميركيّ – السعودي - الإيرانيّ للرئاسة اللبنانيّة وللأزمة في لبنان آتٍ حتماً.