عزيزي القارئ، لا بدّ من ملاحظة استهلاليّة. أعلم أن هذه السطور ستكون ثقيلة على نظرك وعلى ضميرك، لكنني أطلب منك تقبّلها وأتمنى أن تكون دافعاً لك للتحرّك.
وأسترجع مقابلة أجريتها مع صحافي مصري يعيش في لندن، شرح لي كيف إن الدولة المصريّة الحديثة منذ انطلاقتها مع محمد علي تحتكر النخبة الحاكمة وكيف هي صانعتها في الأساس منذ إرساله البعثات التعليميّة إلى فرنسا وحتى يومنا هذا. وقد ترتّب على ذلك أن تكون دائماً النخبة الحاكمة بالطبيعة أكثر التصاقاً بالسلطة منها إلى العامة، إلى درجة تصل أحياناً إلى حدّ انفصال رؤيتها ومطالبها عن الواقع والاحتياج الشعبي. متلازمة أخرى استطاعت النفاذ من أيام محمد علي إلى واقعنا اليوم، وهي متلازمة الصراع على السلطة بين مؤسسة الجيش والتيار الديني. فمنذ أن أرسل محمد علي نجله إبراهيم باشا للقضاء على الحركة الوهابيّة الدينيّة لغاية اليوم، ونحن نرى بشكل أو بآخر تلك المتلازمة. وقد تكلم عنها الكاتب المصري الراحل فرج فوده الذي اغتاله الإسلاميّون، قائلاً إن المخرج الوحيد لتلك المتلازمة والدائرة المفرغة هو أن يقوم تيار سياسي علماني قوي في مصر خارج عباءة السلطة سواء كانت عسكريّة أو إسلاميّة.
لقد ترك نظام [الرئيس المخلوع حسني] مبارك مصر خالية من أي كوادر سياسيّة أو إداريّة غير فاسدة. والمشكلة الأعمق التي تواجهها الثورة والدولة هي عدم توفّر كوادر غير فاسدة قادرة على إدارة الدولة بكفاءة. فتركة مبارك الثقيلة في الحقيقة، هي كوادر فاسدة لها خبرة في إدارة الدولة وكوادر وطنيّة بلا أي خبرة في إدارة الدولة. وأنا هنا لا أتكلم عن وزراء أو محافظين أو برلمانيّين فقط، بل عن الصفوف الثانية والثالثة والرابعة أيضاً. فنحن نعيش في دولة ليس فيها إلا قسم واحد في جامعة واحدة يقوم بتدريس الإدارة العامة! دولة كوادرها السياسيّة ذات الخبرة، تخرّجت من مدرسة الحزب الوطني بكل فساده.
من الناحية الأخرى، فإن أغلب الطبقة الوسطى المتعلمة لم ترَ أي داع للعمل العام أو السياسي في ظلّ ذلك النظام الشمولي، كذلك أمعن النظام في دفع ودعم كل أنواع المشروعات الخيريّة التي من شأنها إراحة ضمائر أفراد تلك الطبقة الوسطى من خلال دفع الأموال للفقراء والنوم بهناء ليلاً قانعين بأنهم فعلوا كل ما يمكن فعله وما أملاه الدين والضمير. واستكانت الطبقة الوسطى وانصرفت بشكل كامل عن دورها العام ودورها المجتمعي، والأهم دورها السياسي.
وحتى اليوم وبعد قيام الثورة على النظام وبروز دور الطبقة الوسطى في الحراك الشعبي، فإن كثيرين يرون أن الطبقة الوسطى أدّت دورها بنزولها لبضعة أيام إلى الشارع لتحتجّ مرّة على نظام مبارك وأخرى على نظام الإخوان المسلمين، وهذا قطعاً غير صحيح وغير كاف. وحتى هؤلاء، أفراد الطبقة الوسطى الذين يقومون بواجبهم المجتمعي، يتعفّفون عن بذل ذلك المجهود في إطار سياسي أو من خلال حزب سياسي ما، متحجّجين بفساد النخبة السياسيّة ومواقف الأحزاب. أما الأغلب الأعمّ من الطبقة الوسطى، فهو يمعن في نقد الأحزاب وكل ما تقوم به من أمام شاشات أجهزة "آي باد" أو هواتفها المحمولة. الجميع ينتظرون من الآخرينالإتيان بفعل ما والجميع مستعدون تماماً لنقد أي عمل. فمن يريد أن يعمل إذاً؟!
أما المشتغلون بالعمل العام منذ ثورة يناير (2011) والمحسوبون على الثورة، فقد خاضوا الكثير من المعارك مع الكثير من خصوم الثورة وأعدائها. وقد أسقطت الثورة بالفعل مبارك وحزبه الوطني ومن بعده المجلس العسكري ومن بعده نظام الإخوان. إلا أنها وفي كل مرّة، لم تكن الثورة هي التي تصل إلى السلطة، بل كان دائماً يستحوذ عليها طرف ثالث. وأسوأ ما في هذا كله حتى هذه اللحظة هو أن عدداً كبيراً من "الثوار" لم يتعلم الدرس الأهم بعد ثلاث مرات، وهو أن الأهم من إسقاط النظام أيّ نظام سيقوم بعده! أزعم أن المعركة الأساسيّة للثورة والتي لم تركز عليها القوى الثوريّة بالقدر الكافي، هي معركة إقامة بديل سياسي خارج سيطرة الدولة والنظام. كل المعارك - من دون بناء ذلك البديل - ضدّ طرف ما لإسقاطه، سيصل إلى النتيجة نفسها وهي أن وقوع السلطة في يد طرف ثالث أكثر راديكاليّة وأكثر عنفاً يشكّل دائرة مفرغة مرعبة!
إن المخرج الوحيد للثورة والدولة والمجتمع هو أن يعي التيار الثوري أن المعركة الأساسيّة للثورة المصريّة والتي يحتاج أن يركّز جهده ووقته فيها، هي بناء ذلك البديل المدني من كوادر وتنظيمات حزبيّة لها جذور مجتمعيّة لا تكون تحت عباءة الدولة. كذلك يجب أن تعي الدولة أن عهد السيطرة على صناعة النخب الحاكمة قد انتهى، ولا يصلح لبناء دولة حديثة سوى حلبة سياسيّة حزبيّة سليمة تعمل فيها الأحزاب بحريّة كاملة في إطار من المنافسة. فهي القادرة على إفراز كوادر سياسيّة قويّة لها جذور تحاول دائماً إجادة عملها في خدمة المواطن لتتمكّن من المنافسة من دون أن يكون همّها الأساسي تملّق السلطة من أجل الوصول إلى منصب.
أما الأهم في هذا كله، فهو أن تدرك الطبقة الوسطى أنه يجب عليها تحمّل مسؤوليّة مجتمعيّة وسياسيّة، وإلا فإنها فانية لا محالة. يجب أن تبدأ الكوادر صاحبة الخبرة الجيّدة في الإدارة والعاملة في مؤسسات وشركات عالميّة، في تحمل مسؤوليتها تجاه المجتمع والبدء في العمل في المجال العام وبناء خبرات في هذا المجال وإفراز كوادر حزبيّة تعمل في الأحزاب المدنيّة. فهي الأقدر على ذلك. إن نقد الأحزاب والعاملين فيها لن يفيد بشيء. فقط العمل في تلك الأحزاب ومنافسة تلك الوجوه القديمة والتغلّب عليها، يعتبر السبيل الوحيد لتحقيق إفادة ما. يجب أن تعي تلك الطبقة أنه في خلال السنوات العشر المقبلة، إن لم تستطع اجتذاب أعداد كافية من الطبقة الأكثر فقراً ورفعها إلى الطبقة الوسطى، فإن الاقتصاد والدولة ككل لن يتمكنا من الاستمرار لأنه ليس هناك ما يكفي لإنتاج ما يمكن أن يسند الاقتصاد في الطبقة الوسطى الأكثر إنتاجاً. وهذا واجب تلك الطبقة ومسؤوليتها تجاه أبنائها والأجيال القادمة.
ويبقى أنه على الجميع أن يعوا أن المشكلة الأكبر والمعركة الأساسيّة هما إعادة بناء المواطن المصري نفسه قبل أي شيء آخر. فأكثر ما أفسده نظام مبارك وأمعن في تخريبه هو المواطن نفسه. إن معركتنا الأساسيّة هي بناء بديل للنظام وليس إسقاط النظام. والنظام لن يسقط إلا إذا أوجدنا البديل.