بغداد تفرج عن السجناء .. وتترك القضاء بمواجهة الشكوك
مشرق عباس
نائب رئيس الوزراء العراقي المختص بشؤون الطاقة حسين الشهرستاني قاد منذ بداية العام الحالي حملة للافراج عن عشرات معتقلين في السجون بداعي البراءة، وهي خطوة ارادت لها الحكومة ان تسهم في تخفيف شدة الاحتجاجات السنية، وسبقتها بخطوة اخرى قادها رجال دين باسم "لجنة الحكماء" افرجت بدورها عن معتقلات من النساء.
وكانت الحكومة العراقية شكلت في 31 كانون الاول (ديسمبر) 2012 لجنة تضم رجال دين سنة بينهم الشيخ عبد المهدي الصميدعي (محسوب على تيار السلفية) و خالد الملا (وهو رجل دين سني رشح الى الانتخابات النيابية عام 2010 ضمن كتلة الائتلاف الوطني الشيعية) بالاضافة الى وزير العدل العراقي حسن الشمري، لتدقيق اوضاع السجينات واطلاقهن من السجون واعلنت هذه اللجنة في 23 من الشهر الجاري اطلاق 91 سجينة من بين 900 موجودات في السجون.
وبدأت التظاهرات في محافظة الانبار العراقية في 23 من ديسمبر الماضي تحت شعار اطلاق المعتقلات من السجون ، والاحتجاج على معلومات عن تعرضهن للاغتصاب.
وفي 8 من كانون الثاني (يناير) الجاري وامام تصاعد مطالب التظاهرات امر رئيس الحكومة نوري المالكي بتشكيل لجنة تضم سبع وزراء برئاسة الشهرستاني هدفها تدقيق ملفات كل المعتقلين بالسجون، وقال الشهرستاني في 20 من الشهر نفسه ان لجنته اطلقت بالفعل سراح 300 من السجناء وتدرس ملفات الالاف من السجناء لمعرفة وضعهم القانوني.
وعلى رغم ان احداً لايلوم السلطات التنفيذية العراقية في السعي لتنفيذ مطالب متظاهري الانبار المشروعة، فان الالية التي اعتمدت لاطلاق السراح تثير ثلاث اسئلة اساسية:
الاول : اذا كان المفرج عنهم هم من الابرياء فعلاً ، لماذا هم في السجون اساساً وبعضهم يقبع فيها منذ سنوات؟.
الثاني: اذا كان المفرج عنهم مجرمون وهنالك ادلة بررت احتجازهم، كيف تسمح السلطة التنفيذية لنفسها باطلاقهم؟.
الثالث: بكلا الحالتين كيف يمكن ان تعالج قضية المعتقلين على يد لجنة وزارية يترأسها مختص في النفط واخرى يترأسها رجل دين ، واين موقع القضاء العراقي من كل هذا؟.
وكما هي الفوضى وانعدام الشفافية سائدة في مفاصل الدولة العراقية، وغائرة في جذورها، فأن غياب الشفافية يضغط بقوة على قضية المحتجزين او المحكومين في السجون.
وعلى رغم ان وزارة العدل العراقية اعلنت منتصف العام 2012 ان سجونها تضم 28 الف معتقلاً ، فأن تلك المعلومة لا توفر غطاءاً نهائياً للعدد النهائي للمعتقلين حيث لم تعلن وزارات الداخلية والدفاع عن اعداد المعتقلين لديهما فيما تتحدث اطراف اخرى مثل "القائمة العراقية" على لسان النائب فيها لقاء الوردي عن 97 الف معتقل، وتشير تقارير لاطراف عراقية معارضة للعملية السياسية مثل هيئة علماء المسلمين وعدد من المجموعات المقاتلة الى ان العدد يزيد عن 120 اف معتقل.
وكانت منظمة العفو الدولية قدرت في تقرير في سبتمبر 2010 عدد المعتقلين ممن تم احتجازهم من دون محاكمة ب 30 الف معتقل لكنها لم تحدد ايضاً رقماً نهائياً بكل المعتقلين.
الحكومة العراقية الحالية ليست وحدها سبباً في هذا الواقع الملتبس على اية حال، فالقوات الاميركية احتاجت خلال احتلالها الفعلي للعراق (2003 – 2012) الى غطاء يتيح لها احتجاز عشرات الالاف من المعتقلين لديها من دون محاكمات، فكان قانون "الارهاب" المساحة التي سمحت بنقل المعتقلين من القوات الاميركية الى الحكومة العراقية مع الاحتفاظ بالغموض حول تهمهم وتطابق اعتقالهم مع المعايير القانونية وايضاً اعدادهم الحقيقية.
المشكلة اليوم ان القضاء العراقي، المكلف رسمياً بحسم قضايا المعتقلين سواء الموروثين من القوات الاميركية او المحتجزين على يد الحكومة العراقية، يقع في حرج شديد.
القضاء العراقي متهم بالخضوع الى ارادة السلطة السياسية التي يتزعمها نوري المالكي، وتأتي هذه الاتهامات من اطراف سياسية فاعلة مثل "القائمة العراقية" و"تيار الصدر" و"التحالف الكردستاني" التي طالبت منتصف العام 2012 بوقف تسييس القضاء ضمن شروط "اعلان اربيل" لحل الازمة السياسية، وسماح القضاء بتمرير عمليات اطلاق سراح واسعة من دون اسس واليات قانونية واضحة قد يؤكد تلك الاتهامات.
كالعادة ، تتصرف السلطة المركزية في العراق مرة في الدفاع امام الشكاوى عن وجود الالاف الابرياء في السجون والاتهمات عن استخدام التعذيب لانتزاع الاعترافات ، فتؤكد ان لاسلطة لديها على القضاء، ومرة اخرى تضع القضاء امام حقيقة ان هناك بالفعل اعداد كبيرة من المعتقلين الواجب اطلاق سراحهم ولم يتحرك القضاء لاطلاقهم.
ممثلية الامم المتحدة في العراق، كانت اعربت في تقرير صدر عن بعثتها في بغداد في (19 /12/2012) عن قلقها الشديد من تطبيق معايير العدالة في القضاء العراقي، ولم تكتف بابداء الاستياء من تنفيذ 120 حكم اعدام خلال العام الماضي وصدور عشرات الاحكام الاخرى، لكنها ركزت للمرة الاولى على الية التحقيق مع المتهمين، فأشرت بشيء من الانتقاد اعتماد القضاء العراقي في مرحلة التحقيق على الاعترافات كدليل وحيد للادانة.
وبصرف النظر عن وجهة نظر الطبقة السياسية العراقية حول هذا التقييم الدولي، فأن القضاء العراقي يقع اليوم في دائرة حرجة جداً، وعليه كسلطة مستقلة دستورياً ان يبادر الى تحقيق اصلاح حقيقي ذاتي في بناه لضمان تلك الاستقلالية، وقطع الطريق امام الاتهامات التي تطاوله.
قانونا "المحكمة الاتحادية" و"مجلس القضاء الاعلى" اللذان يحصدان التعثر في الاقرار داخل البرلمان العراقي منذ سنوات، قد يكونان المدخل النموذجي لتحقيق هذا الاصلاح، لكن التداخل السياسي لعرقلتهما مازال يثير العديد من الاسئلة.