رام الله، الضفّة الغربيّة — في غرفة صغيرة مرصوفة بخرائط تُظهر التغيّرات التي طرأت على فلسطين في فترات زمنيّة متفاوتة، وأهمّها خارطة فلسطين التاريخيّة، والتي جمعت من مكتب الأمم المتّحدة للشؤون الإنسانيّة (أوتشا) ومؤسّسة بديل لحقّ العودة واللاّجئين، تدلّت من سقفها 6 أعمال فنيّة طويلة مشبّكة من ألياف الصبّار الجافّة المحاكة بالخيوط السوداء ومعلّقة على دولاب في وسطه خارطة العالم تتوسّطها مدينة القدس، في إشارة إلى كونها مركز العالم وصبّارة خضراء ترمز إلى الأمل، وتدور ببطء في حركة دائريّة لتلقي بظلالها علي الخرائط، تختصر الفنّانة الفلسطينيّة رنا بشارة، من قرية ترشيحا في الجليل، ذاكرتها حول المشهد الطبيعيّ المتغيّر في فلسطين.
ويرمز عمل رنا بشارة الفنيّ الإنشائيّ، الذي أسمته "خارطه طريق نحو التصفية 2016 – 2019"، إلى القرى والبلدات الفلسطينيّة التي دمّرت في عام 1948، ولم تبقَ منها سوى نبتة الصبّار كشاهد على نكبتها. كما أنّه رسالة احتجاج من بشارة على عمليّة السلام بين منظّمة التحرير الفلسطينيّة وإسرائيل، التي ترى أنّها أدّت إلى تشتّت الأرض الفلسطينيّة وتجزئتها وتحويلها إلى كانتونات، من خلال ما تظهره الخرائط من تغيّرات على جغرافيّة الأرض، التي تحاول لملمتها من خلال قطع الصبّار المحاكة ببعضها، وفق ما قالته بشاره لـ"المونيتور".
ويعدّ عمل بشارة واحداً من بين أكثر من مئة عمل فنيّ يحتضنه المتحف الفلسطينيّ في بلدة بيرزيت - وسط الضفّة الغربيّة، ضمن معرض "اقتراب الآفاق: التحوّلات الفنيّة للمشهد الطبيعيّ"، للقيّمة الضيفة تينا شيرويل، والذي افتتح في 1 نيسان/إبريل وسيستمرّ حتّى 31 كانون الأوّل/ديسمبر من عام 2019.
ويعتبر الصبّار اللغة الفنيّة الأكثر استخداماً لدى بشارة، التي أشارت في حديث لـ"المونيتور" إلى أنّ عملها الفنيّ يختصر المشهد الطبيعيّ لفلسطين، حيث يظهر الصبّار فلسطين التاريخيّة كالهيكل العظميّ، بعد أن أصبحت مشوّهة بصريّاً وحياتيّاً، نظراً لغياب أيّ ترابط اجتماعيّ وجغرافيّ بينها، بسبب جدار الفصل العنصريّ والمستوطنات.
وعن رمزيّة الصبّار، قالت بشارة: إنّ الصبّار كان دوماً جزءاً من المشهد الطبيعيّ في فلسطين، واستخدم في تسييج أراضينا الزراعيّة وقرانا منذ عشرات السنوات. وبعد النكبة خلال عام 1948، تحوّل إلى رمز للقرى المهجّرة، التي دمّرت ورحل أهلها عنها.
ويتيح المعرض، الذي يعدّ من أكبر المعارض الفنيّة المقامة في فلسطين، من حيث شموليّته لأجيال مختلفة من الفنّانين، الفرصة للجمهور لاستكشاف التحوّلات الفنيّة في المشهد الطبيعيّ في أعمال نحو 36 فنّاناً أنتجوا أعمالاً فنيّة بأفكار مختلفة، أبرزها التعبير عن الأرض الأم، والحنين أو الانتماء، والتفتيت وأركيولوجيا المكان، والمشهد الطبيعيّ المتغيّر، والمحو والتجزئة.
وقالت مساعدة قيّمة المعرض لما التكروري في حديث لـ"المونيتور": إنّ إقامة معرض فنيّ لرصد المشهد الطبيعيّ في فلسطين، يعود إلى خصوصيّته بسبب التغيّرات الهائلة التي طرأت عليه خلال الزمن، سواء أكان بفعل السياسات الإسرائيليّة أم المدّ العمرانيّ الذي تشهده المدن الفلسطينيّة.
ثلاث لوحات للفنّان توفيق جوهريّة هي أقدم الأعمال في المعرض، والتي تعود إلى عام 1930، لكنّها لا تحمل اسماً ولا تُعرف على وجه الدقّة ملامحها، كونّه يقدّم مشهداً طبيعيّاً ليست معروفة ملامحه، إن كانت في فلسطين أم خارجها، فيتيح بذلك للمشاهد أن يتخيّل المشهد ويتأمّله.
وأشارت لما التكروري إلى أنّ أعمال توفيق جوهريّة (الرسم بالزيت على القماش) تظهر تأثّره بالنمط الغربيّ للمشهد الطبيعيّ، من خلال رسم بحيرات مياه صافية وقصر ذات عمارة كلاسيكيّة محاط بأشجار السرو، ومشهد بحريّ مضاء بنور القمر.
أمّا الفنّان سليمان منصور، فينتصب عمله الضخم "جفاف" على حائط كبير في المتحف، والذي يتكوّن من مئات القطع من الطين اليابس الملصقة على أسلاك حديديّة تشكّل في ما بينها الحدود الخارجيّة لجسم إنسان، وقالت التكروري: إنّ هذا العمل هو الأكبر ويجسّد فيه منصور "التجزئة، والتلاشي، والجفاف المعنويّ في المشهد الطبيعيّ الفلسطينيّ".
أمّا الفنّانة منال محاميد، فشاركت في منحوتة ضخمة للغزال الفلسطينيّ من مادّة الـ"فايبر جلاس"، الذي يظهر برجل مبتورة، وأشارت التكروري إلى أنّ "هذا الغزال رأته محاميد في حديقة الحيوان الإسرائيليّة، وتنسبه إسرائيل لنفسها، وكان العديد منها مبتور القدم، بسبب ما قالوا إنّه مرض أصاب أطرافها"، وقالت: "إنّ هذا العمل يرمز إلى الفلسطينيّين داخل أراضي 1948، والذين يعيشون ضمن مشهد طبيعيّ منقوص من الحريّة والحركة والتمدّد الجغرافيّ".
وإنّ تينا شيرويل، التي تعدّ مؤرّخة وفنّانة وقيمّة معارض، عملت لمدّة عامين للإعداد للمعرض، فبدأتهما بإعداد أبحاث حول تصوّر الفنّانين الفلسطينيّين للأرض والمشهد الطبيعيّ، ثمّ التواصل مع الفنّانين والمعارض وجامعي الأعمال الفنيّة للحصول على الأعمال الفنيّة وإحضارها إلى المتحف وتنسيق عرضها، كما أوضحت التكروري.
ورغم أنّ المعرض يترك للمشاهد حريّة تذوّق الأعمال ببصيرته وتخيّلها، إلاّ أنّه يمدّه بمعلومات حول طبيعة الظروف السياسيّة التي ساهمت في تشكيل الأعمال الفنيّة المعروضة، من مساحة "الفضاء الزجاجيّ" الذي أقامه المتحف إلى جانب المعرض، ويوفّر فيه مجموعة من المنشورات ونصوص الجدران والرسوم البيانيّة والتسلسل الزمنيّ، والتي توفّر كلّها معلومات مكتوبة.