منذ ما يقارب ثلاث سنوات، كانت الرقة، وهي سادس أكبر مدينة في سوريا، بمثابة مسلخ لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش). أما اليوم، فقد تحررت المدينة من قبضة التنظيم، إلا أنها تعاني من دمار ما بعده دمار. وقد تم تحریر المدينة في 17 أکتوبر / تشرین الأول بفضل تحالف مدعوم من الولایات المتحدة ومؤلف بغالبيته من مقاتلین أكراد وسوریین. لكن بعد هذه الهزيمة على الأرض، يواصل طيف داعش تعتيم حياة مواطنين حُفرت ذاكرتهم برعب التنظيم المروع ووحشيته وإراقته الدماء.
فوزة، التي رفضت الكشف عن اسمها الأخير، أم تبلغ من العمر 36 عاما، وقد هربت من الرقة ليلا منذ ثمانية أشهر وهي الآن من بين آلاف اللاجئين السوريين الذين يعيشون في لبنان. وقد روت فوزة كيف هربت من المدينة قائلة: "وضعت ابنتي البالغة من العمر 3 سنوات على كتفي، أما ابني البالغ من العمر 12 عاما فوضع شقيقه الأصغر على ظهره وزحفنا على جثث مرمية لنهرب من المسلحين".
وأضافت: "لدى وصولنا إلى حدود لبنان، لم يكن باستطاعة الأولاد التنفس أو التوقف عن القيء". فساروا طالبين عونة المارة، واختبأوا في شاحنات نجت من المتفجرات والألغام الأرضية".
الصدمة التي عاشتها فوزة مع عائلتها واضحة كل الوضوح في تعرق أطفالها ليلا وفي الكوابيس التي تراودهم. فعديدة هي التحديات التي يعيشها اللاجؤون السوريون في لبنان الذي لا يتجاوز عدد سكانه الـ 6 ملايين نسمة ويستضيف اليوم أكثر من 1.1 مليون سوري مسجل، علما أن مجموعات الإغاثة المحلية والمنظمات الشعبية تشير إلى أن هذا الرقم لا يشمل الآلاف العديدة من اللاجئين غير المسجلين.
وفقا للمبادرة الإنسانية "ريتش"، بحلول منتصف سبتمبر / أيلول، كان قد تبقى 8،000 نسمة في الرقة من أصل ما يقارب 300،000 قبل الحرب. وفي الأشهر الاثني عشر الأخيرة وحدها، سجلت مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين ما يقارب مليون عملية نزوح في شمال سوريا وجنوبها، في حين سجلت حلب والرقة وحماة أعلى مستويات الدمار.
في الرقة، من المستحيل حساب العدد الدقيق للوفيات بين المدنيين. لكن وفقا لحسابات محلية، ارتفع عدد القتلى المدنيين في منتصف تشرين الأول / اكتوبر الى حوالى ألف شخص لقوا حتفهم في غارات جوية وتفجيرات في خلال الأشهر الأربعة الماضية. واليوم تعاني المدينة من عدم وجود أحياء سكنية أو كهرباء أو مياه نظيفة، علما أنها كانت مدينة زراعية بامتياز.
قبل أن تستولي الدولة الإسلامية على الرقة كجزء من الخلافة التي أعلنتها لنفسها، كانت المدينة بمثابة ملاذ آمن لجبهة النصرة التابعة للقاعدة والتي قاتلت قوات النظام السوري وجماعات المعارضة الأخرى. وأعلن زعيم تنظيم الدولة الإسلامية أبو بكر البغدادي عن المدينة كمعقل الجماعة في سوريا في كانون الثاني / يناير 2014، معلنا في الوقت نفسه سيطرة التنظيم على الموصل في العراق.
وتضمنت عمليات التنظيم في المدينة وفي المربعات الرئيسة في المدينة عمليات قطع رؤوس وتجنيد أولاد صغار بهدف تنفيذ عمليات انتحارية، وتم فتح مدارس إسلامية إلزامية تدرس تفسيرات داعش المشؤومة – كما استحالت النساء والفتيات عبيد جنس في مدينة باتت بمثابة مقبرة.
وبحسب تصريح أدلت به للمونيتور أم تبلغ من العمر 29 عاما وهي أم لخمسة أطفال غادروا الرقة في الخريف الماضي: "فقدت أكثر من عائلتي في الرقة. فقدنا كرامتنا؛ وحُرمنا من كل شيء". وروت هذه الأم كيف أن بناتها الشابات أُجبرن على مشاهدة عمليات الإعدام وقطع الرؤوس العلنية في خلال السنوات الثلاث الماضية.
وبدلا من اسمها الحقيقي، طلبت أن يتم استخدام اسم أمل، أولا لأنها تريد حماية هويتها، وثانيا لأنها تأمل العودة إلى ديارها إلى سوريا، وقالت: "بين عشية وضحاها، قررت تهريب أطفالي في شاحنة محملة بالأغنام".
كانت أمل تخاف على بناتها الشابات اللواتي أُجبرن على الالتحاق بمدارس الخلافة الإلزامية وكن تحت خطر الزواج القسري من المسلحين.
وأضافت إن "وضع رؤوس الأموات على الحراب وإرغام الأطفال على رؤية هكذا مشاهد جدير بأن يقضي على أحلامهم وطفولتهم".
وفي حين قدت أمل العديد من أفراد عائلتها على يد داعش، خسارة واحدة لا تزال تعذبها وهي تستقر في حياة جديدة في لبنان. في العام الماضي، كانت صديقة أمل المفضلة متهمة ظلما بالخيانة من قبل مسلح من مسلحي داعش. فكان عليها أن تصبح عروس هذا المسلح، أو ما يعرف بـ "عبدته الجنسية". ونظرا لعدم إطاعتها هذا المسلح، تم رجمها علنا حتى الموت في ساحة من ساحات المدينة الرئيسة.
تقول أمل التي يعاني أطفالها، شأنهم شأن أطفال فوزة، من الكوابيس والقلق الناجم عن الصدمة الجسيمة: "لقد فقدت شقيقة لي، ولكن ما لا يمكن أن أنساه هو كيف تم إرغامي على رؤيتها تموت".
تجدر الإشارة في هذا الإطار إلى أن رئيس الوزراء اللبناني سعد الحريري كان قد أعلن في الربيع الماضي إن بلاده "في مرحلة الانهيار" وذلك بعد زيارة الولايات المتحدة لطلب المزيد من الدعم الدولي لتدفق اللاجئين الساحق الذي "يخشى" أن يتسبب بـ "اضطرابات مدنية".
نهلة أم أخرى من الرقة كان خوفها وقلقها الوحيد هو أن يقوم تنظيم داعش بتجنيد ابنها محمود البالغ من العمر 22 عاما. فقالت: "كنت على علم أنهم يبحثون عنه، إذ كان التجنيد إجباريا في الرقة". ولإبقاء ابنها الوحيد آمنا، خاطرت نهلة وهربت من الرقة في الشتاء الماضي. إلا أن هروبهم إلى لبنان لم يضع حد للمأساة التي تنتظر ابنها. فبعد أسبوع من وصوله إلى لبنان، قتل محمود في حادث دراجة نارية – ما سحق أملا ببداية جديدة.
إن تحرير الرقة مؤخرا لا يعني بالضرورة الانتقال السلس إلى الاستقرار والهدوء. فمن ناحية، تسعى القوات الديمقراطية السورية المدعومة من الولايات المتحدة إلى السيطرة على المدينة، فيما يحاول مجلس محافظة الرقة استلام زمام الأمور بدعم من الهيئة السورية المعارضة الرئيسة في تركيا. في هذا الوقت، يواصل نظام بشار الأسد المكافحة لاستعادة السيطرة على المناطق التي كانت تسيطر عليها داعش وقوات المعارضة.
قد لا يكون التشبث بالأمل سهلا بالنسبة لنساء الرقة والعديد من اللاجئين السوريين الآخرين الذين يحلمون بالعودة، إلا أن الأم "أمل" التي تريد العودة إلى ديارها في سوريا سالمة وآمنة تعتقد أن "الأمل هو كل ما نملك". وقد خلصت إلى أن "النساء اللواتي ما زلن في بلدنا الحبيب يجب أن يتمسكن بأملهن. هذا كل ما سيبقينا على قيد الحياة".