القاهرة - يبدو أنّ ما تشهده سوريا من حرب أهليّة طاحنة ومجازر يذهب ضحيّتها العديد من السوريّين، ومنها مجزرة حلب التي هزًت الضمائر الإنسانيّة، لم يكن بعيداً عن المجتمع الأهليّ في مصر، حيث قدّمت مجموعة من الأطبّاء النفسيّين في 14 كانون الأوّل/ديسمبر 2016 مبادرة لتقديم جلسات مجّانيّة للعلاج النفسيّ والدعم عبر الإنترنت، إلى أهالي سوريا المتضرّرين من الحرب في المناطق التي فيها اتّصال بالإنترنت، وهي جلسات ممتدة حيث أعلن عن المرحلة الثانية في 10 يناير .
وعلى الرغم من الحواجز الجغرافيّة، والحصار المفروض على السوريّين من قبل النظام، وصعوبة التواصل عبر الإنترنت، إلّا أنّ ذلك لم يمنع السوريّين من الإقبال على الحملة في شكل كبير لم يتوقّعه القائمون على المبادرة أنفسهم. وعليه، يمكن القول إنّ تلك المبادرة تلقي الضوء على بعد جديد من المساعدات الإنسانيّة للمتضرّرين من الحروب والثورات.
يعدّ مستشار العلاج النفسيّ وعضو الجمعيّة العالميّة للطبّ النفسيّ الطبيب النفسيّ أحمد هارون صاحب فكرة إطلاق تلك المبادرة، بمساعدة عدد من المعالجين النفسيّين المتطوّعين. ويشير هارون في حديثه إلى "المونيتور" إلى أنّ تلك المبادرة تأتي في الأساس في ظلّ الاهتمام بتقديم الدعم النفسيّ إلى المصابين بكرب ما بعد الصدمة، أي الذين تعرّضوا إلى حوادث. ومع تطوّر الأحداث في سوريا وآخرها مجزرة حلب، رأى هارون أهميّة التحرّك للتضامن مع السوريّين ودعمهم، وقال: "تطوّع عدد كبير من فريق الدعم النفسيّ في المبادرة، حيث يسجّل الراغبون في الجلسات المجّانيّة من السوريّين على الموقع الإلكترونيّ الخاصّ بالمبادرة، على أن يقوم أحد الأطبّاء المتطوّعين بمساعدتهم وتقديم الدعم النفسيّ إليهم".
وعن طبيعة العلاج النفسيّ، يوضح هارون أنّه علاج معرفيّ، يتمّ من خلال محاولة تعديل أفكار طالبي المساعدة النفسيّة عن الواقع، وحثّهم على التحكّم في الانفعالات، وذلك من خلال جلسات تمتدّ إلى 20 دقيقة لكلّ جلسة مع اختصاصيّ نفسيّ، ويعمل الطبيب على تدريب المريض على آليّات تجاوز الأزمة وكيفيّة تحسين علاقته مع الآخرين.
وأكّد أنّ المبادرة مقتصرة في الوقت الحاليّ على السوريّين داخل سوريا، ولكنّه أوضح أنّه مع مرور الوقت، قد تمتدّ المبادرة لتشمل العراقيّين واليمنيّين والليبيّين. وحثّ على أهميّة الدعم النفسيّ لمصابي الحرب، قائلاً: "أخطر الاضطرابات النفسيّة هي التي تحدث بعد وقوع كارثة أو فقدان شخص، حيث يحتاج الشخص الذي تعرّض إلى صدمة مماثلة إلى إعادة ترتيب أفكاره في شكل مختلف، واستكمال حياته من دون معاناة". وعن السوريّين الذين يعيشون داخل مصر، أكّد هارون أنّه "يتمّ تخفيض اشتراك الجلسات إلى من يحتاج، أو يتمّ تقديم العلاج النفسيّ المطلوب بالمجّان إلى من تدهور وضعه الاقتصاديّ".
وعن أكبر التحدّيات التي واجهت المبادرة، أشار هارون إلى "صعوبة التواصل عبر الإنترنت لضعف الخدمات سواء في مصر أم في سوريا"، مؤكّداً الطابع المجتمعيّ للمبادرة، وعدم وجود أيّ دوافع سياسيّة وراءها.
في حديثه إلى "المونيتور"، أشاد رئيس الهيئة العامّة السوريّة للّاجئين في مصر الدكتور تيسير النجّار، بأهميّة المبادرة. ولكنّه أكّد من جانب آخر أنّ الدعم النفسيّ ضروريّ فقط بعد الحرب، قائلاً: "لا يعقل أن نعالج السوريّين نفسيّاً في الوقت الذي لا يزال القصف مستمرّاً، مشيراً إلى وجود عدد من المنظّمات والجمعيّات داخل سوريا التي تقوم بالمهمّة نفسها، إلّا أنّ تلك الجمعيّات والمنظّمات غير قادرة على الوصول إلى من هم في حاجة إلى المساندة النفسيّة، بسبب الحصار المفروض على سوريا".
كما أعرب عن اعتقاده أنّ الأولويّة حاليّاً ينبغي أن تكون لمساعدة السوريّين داخل مصر، وبصفة خاصّة الأطفال الذين شاهدوا أقاربهم وذويهم يموتون أمامهم، فهناك أطفال فقدوا القدرة على النطق من هول ما شاهدوه"، مضيفاً: "الأفضل هو أن يتمّ بناء مستشفيات لعلاج السوريّين المتواجدين في مصر حاليّاً، وتوفير العلاج الجسديّ والنفسيّ لهم، بدلاً من الذهاب إليهم داخل سوريا"، مؤكّداً الحاجة إلى إبداء المزيد من الاهتمام بالسوريّين المقيمين في مصر.
وتقترب الحرب السوريّة من عامها السابع، من دون أيّ بوادر لحلّ هذه الأزمة التي تسبّبت في نزوح أكثر من ستة ملايين شخص داخل سوريا، ومقتل ما يقارب من أربعمائة ألف، وامتدّت تأثيرات الحرب أيضاً لتشمل الصدمات النفسيّة، الأمر الذي اهتمّت به مراكز الأبحاث الغربيّة، ومن ضمنها مركز بروكينغز، الذي أشار إلى معاناة ما يقارب نصف اللاجئين السوريّين في ألمانيا من أمراض ذهنيّة، فهناك 70% منهم عاصروا أحداثاً دمويّة.
وفي هذا السياق، يتحدّث الباحث في علم النفس السياسيّ في مركز الأهرام للدراسات السياسيّة والاستراتيجيّة في القاهرة الدكتور زياد عقل في حواره مع "المونيتور" عن تأثيرات ما يعرف بالـPost-Revolutionary Trauma، أي صدمات ما بعد الثورات، التي تنتاب البعض جرّاء المشاركة في عمليّات سياسيّة وعسكريّة، وتترك أثراً نفسيّاً عليهم، معتبراً الثورات بمثابة أحد العوامل التي تغيّر مدركات الأشخاص عن المجتمع أو ما يعرف بالآخر، مثل إدراك معظم السوريّين أنّ الدولة لم تعد مظلّة آمان وحماية لهم، بل أحد مصادر التهديد لبقائهم".
كما أشار إلى أنّ "الثورة السوريّة تسبّبت في مشاكل نفسيّة لعدد من السوريّين، مثل الإحباط والاكتئاب المزمن وعدم القدرة على التكيّف مع الواقع"، مشيداً بالمبادرة المصريّة "التي توفّر العلاج النفسيّ عبر الإنترنت"، ومؤكّداً "أهميّة انتشارها". وفسّر: "ما زلنا نتعامل مع الربيع العربيّ من خلال التركيز المفرط على الدولة، وإهمال الفرد الذي يعدّ ركناً أساسيّاً من التحوّلات السياسيّة والمجتمعيّة، الأمر الذي يبرهن أهميّة التركيز على المواطن الذي يعيش واقع الربيعّ العربيّ".
تناولت المبادرة بعداً رئيسيّاً وهو الدعم النفسيّ، في ظلّ حاجة المواطن السوريّ إلى التنفيس عن مشاكله، ونفي إحساس الوحدة، لا سيّما في ظلّ غياب مستشفيات الأمراض النفسيّة في سوريا، لذلك لم يكن مفاجئاً أن تقترح الهيئة الطبيّة الدوليّة جعل الرعاية العقليّة/النفسيّة جزءاً من الرعاية الصحيّة، بما يعني أنّه ربما تتركّز الجهود الدوليّة والإقليميّة في الفترات المقبلة على تقديم العلاج النفسيّ للسوريّين المتضرّرين من الحرب، ولكن تبقى المبادرة قيد التحدّيات، منها الحاجة المستمرّة إلى الدعم الماديّ، والقدرة على الاستجابة إلى كثرة المشاكل المعقّدة، والوصول إلى الفئات المستهدفة، خصوصاً الأطفال وكبار السنّ الذين هم في حاجة إلى دعم نفسيّ أكبر.