منذ سقوط الديكتاتور العراقيّ صدام حسين سنة 2003، بدأ الشيعة يحيون مجدداً وفي العلن ذكرى أربعين الإمام الحسين السنويّة، ويسجّل عدد الأشخاص المشاركين في هذه المناسبة ارتفاعاً سنة بعد سنة.
ويتمّ إحياء ذكرى أربعين الإمام الحسين، التي تُعتبر زيارة الحجّ السنويّة الأكبر في العالم، بعد أربعين يوماً من اليوم الذي قُتل فيه الإمام الشيعيّ الثالث الحسين بن علي على يد قوّات موالية للخليفة الأمويّ الثاني، يزيد بن معاوية، سنة 680 ميلادي. ويتمتّع الإمام الحسين، حفيد النبيّ محمّد، بمكانة خاصّة لدى الشيعة بفضل معركته ضدّ آلاف الجنود الذين أرسلهم الخليفة يزيد لمواجهته هو ورفاقه الأقلّ من مئة.
وكلّ سنة، قبل أيّام قليلة من ذكرى الأربعين، يسافر الشيعة من كلّ أنحاء العالم إلى العراق للمشاركة في المسيرة نحو مرقد الإمام الحسين في مدينة كربلاء المقدّسة. تجدر الإشارة إلى أنّ الإمام الحسين مبجّل من جميع الطوائف الإسلاميّة، وبعض المجموعات المسيحيّة في العراق تشارك أيضاً بانتظام في المسيرة إلى كربلاء.
والسنة الماضية، شارك في المسيرة 27 مليون شخص من بلدان مختلفة، كتركيا وطاجيكستان. وتُعتبر إيران من البلدان التي ترسل أكبر عدد من الزوّار إلى المسيرة، إذ إنّ عدد الحجّاج الإيرانيّين الذين يسافرون إلى العراق يتخطّى 1,5 ملايين.
وفي السنوات الماضية، فضلاً عن النواحي الدينيّة، اعتبر الشيعة أنّ مشاركتهم في هذه الذكرى تحمل رسالة تحدٍّ إلى تنظيم الدولة الإسلاميّة (داعش)، ألا وهي الوحدة والقوّة والاستعداد لمواجهة هذا التنظيم.
وقال إمام جمعة مدينة عيلام في إيران، محمد نقي لطفي، في 9 تشرين الثاني/نوفمبر إنّ "ملحمة مسيرة الأربعين في العراق هي تحقيق فعليّ لوحدة الشيعة واستعدادهم لمواجهة المجموعات التكفيريّة وإخافتها".
بالإضافة إلى ذلك، يًعتبر إحياء ذكرى أربعين الإمام الحسين تحدّياً مباشراً موجّهاً إلى المملكة العربيّة السعوديّة التي انتقدتها إيران بشدّة بسبب "سواء إدارتها" للحجّ، نظراً إلى التدافع المميت سنة 2015 الذي أدّى إلى مقتل عدد كبير من الحجّاج، بما في ذلك مئات الإيرانيّين.
يشار إلى أنّ الحكومة العراقيّة لا علاقة لها بإدارة زيارة الأربعين في العراق، وأنّ سعر الرحلة زهيد بما أنّ متطوّعين كثيرين على درب المسيرة إلى كربلاء يقدّمون مأكولات ومشروبات مجانيّة إلى الحجّاج. بالإضافة إلى ذلك، لم يلقَ أيّ شخص حتفه بسبب تدافع أو أيّ شكل من أشكال سوء الإدارة أثناء المسيرة، التي استقطبت حجّاجاً مرّات أكثر من الحجّ في المملكة العربيّة السعوديّة.
وفي إشارة إلى حادثة التدافع في السعوديّة سنة 2015، كتب موقع "دانا" الإخباريّ الإيرانيّ في 7 تشرين الثاني/نوفمبر أنّ "المسيرة تجري في ظلّ إدارة صحيحة، من دون أيّ إصابات... وإنّ وجود [عدد كبير من] الأشخاص في مسيرة الأربعين [يعني أنّه على السعوديّة] استقاء الدروس من هذه المسيرة".
جذور معارضة السعوديّة لذكرى الأربعين
في 10 أيلول/سبتمبر، نشرت قناة "الوصال" التلفزيونيّة المملوكة من السعوديّة شريط فيديو على "تويتر" مع التغريدة الآتية: "المسلمون يذهبون إلى مكّة، والصفويّون يذهبون إلى كربلاء". والصفويّة، التي تعود إلى الإمبراطوريّة الصفويّة الإيرانيّة في القرون الوسطى، هي كلمة يستخدمها الوهابيّون بشكل خاصّ للإشارة إلى أنّ الشيعة أكثر ولاء لإيران وأنّ الإيرانيّين ليسوا مسلمين. والمثير للاهتمام أنّ الكلمة نفسها استخدمها "داعش" لوصف الشيعة بالكفّار. في هذا الإطار، تشير مجلّة "دابق"، وهي مجلة "داعش" الرسميّة، إلى الشيعة بكلمة "الرافضة".
وبالتالي، تعارض المملكة العربيّة السعوديّة مسيرة الأربعين – وهي معارضة متجذّرة في إيديولوجيّتها الوهابيّة. فالوهابيّون يعتقدون أنّ زيارة القبور وتبجيل القدّيسين هما شكلان من أشكال الشرك (تعدّد الآلهة). وفي العام 1801، هاجم وهابيّون من شبه الجزيرة العربيّة كربلاء ونهبوها. وأثناء الغارة، قتل الوهابيّون الآلاف من السكّان المحليّين، ونهبوا ضريح الحسين ودمّروا قبّته. وكتب المؤرّخ السعوديّ عثمان بن بشر النجدي: "انطلق سعود [نجل عبد العزيز وحفيد بن عبد الوهاب] في طريقه مع الجيش الربانيّ. توجّه إلى كربلاء وبدأ بتنفيذ أعمال عدائيّة ضدّ سكّان مدينة الحسين. تسلّق المسلمون [الوهابيّون] الجدران ودخلوا المدينة وقتلوا غالبيّة شعبها في الأسواق وفي بيوتهم. ثمّ دمّروا القبّة الموضوعة فوق ضريح الحسين. وأخذوا كلّ ما عثروا عليه في داخل القبّة ومحيطها. أخذوا حاجز القضبان المرصّع بالزمرّد والياقوت ومجوهرات أخرى... وأنواعاً مختلفة من الممتلكات وأسلحة وملابس وسجّادات وذهباً وفضّة ونسخات قيّمة من القرآن".
تجدر الإشارة إلى أنّ هذا النوع من الدمار والتخريب مارسه "داعش" أيضاً في السنوات القليلة الماضية. على سبيل المثال، في 4 تموز/يوليو 2014، نبش أفراد من "داعش" قبر النبيّ يونس في شرق الموصل ودمّروه.
هل يفضّل الشيعة والإيرانيّون كربلاء على مكّة؟
في الأشهر القليلة الماضية، نشرت بعض وسائل الإعلام العربيّة مقالات زعمت فيها أنّ المرشد الإيرانيّ الأعلى علي خامنئي أصدر فتوى طلب فيها من الإيرانيّين تأدية فريضة الحجّ في كربلاء بدلاً من مكّة. لكنّ المسؤولين الإيرانيّين سارعوا إلى نفي هذه المزاعم.
وبعيداً عن نفي إيران لهذه الفتوى المزعومة، يعتقد الفقهاء الشيعة أنّه لا يمكن تأدية فريضة الحجّ سوى في مكّة. وفي الواقع، تُعتبر تأدية فريضة الحجّ واجباً، أمّا زيارة قبر الحسين فمستحبّة.
وتكتسب فريضة الحجّ أهميّة كبيرة في الإسلام إلى درجة أنّ من لا يؤدّيها – إذا كان وضعه الصحيّ والماليّ يسمح بذلك – سيُعتبر غير مسلم في الآخرة. في هذا السياق، قال الفقيه الشيعيّ البارز، الشيخ الحرّ العاملي (1693-1624)، إنّ زيارة أضرحة الأئمّة الشيعة لا يمكن أن تُستعمل كذريعة لعدم تأدية فريضة الحجّ. بالإضافة إلى ذلك، قال الإمام الشيعيّ الخامس، الإمام محمد بن الباقر: "إذا كان الفرد قادراً مادياً على الذهاب إلى الحجّ لكنّه عليل أو مريض، فيتعيّن عليه إرسال شخص بالنيابة عنه إلى الحجّ ودفع التكاليف بنفسه".