مدينة غزّة، قطاع غزّة - خلف أسوار مديريّات الإصلاح والتأهيل في محافظات قطاع غزّة، يقبع المئات من السجناء، الّذين أودى بهم القدر أن يكونوا ضمن نزلائها لمخالفات وجرائم ارتكبوها بحقّ القانون. وعلى اعتبار أنّ الهدف من السجن هو الإصلاح والتأهيل وليس العقاب، تسعى المديريّات إلى تنفيذ برامج تعليميّة وتشغيليّة في شكل دائم، إذ افتتحت مديريّة إصلاح وتأهيل الوسطى وبالتعاون مع مؤسسة إدماج في 18 من الشهر الماضي "مخبز الفاتح".
كما افتتحت في 6 كانون الثاني/يناير الماضي مصنع الخياطة ومشغل الأعمال الحرفيّة، وذلك ضمن مشروع "النزيل المنتج" لتشغيل النزلاء والإستفادة من طاقاتهم. وفي هذا المجال، قال مسؤول مصنع الخياطة في المديريّة، وهو النزيل أبو أكرم (53 عاماً) لـ"المونيتور": "كنت أملك مصنع خياطة قبل دخولي إلى السجن. لذا، ارتأت الإدارة أن تجعلني مسؤول المصنع. كما طلبت منّي تدريب النزلاء الآخرين على مهنة الخياطة، الذين يبلغ عددهم حالياً 15 نزيل".
أضاف: "في السابق، كانت خبرتي محدودة في مجال تصنيع القصّات والملابس الجاهزة التي يرسلها التجار الإسرائيليون لأقوم بخياطتها فقط ومن ثم إعيد إرسالها لهم ليتم بيعها في إسرائيل . أمّا الآن فأنا أصمم وأفصّل الملابس بشكل كامل، وذلك حسب الطلب".
وأوضح أبو أكرم المحكوم 15 عاماً بتهمة الإتجار بالمخدّرات، والّذي قضى من محكوميّته 8 أعوام ونصف عام، أنّه استفاد من المشروع من نواحٍ عدّة، أهمّها الراحة النفسيّة الّتي حصل عليها بمجرّد عودته إلى مهنته، إلى جانب المقابل الماديّ الّذي أصبح يتلقّاه أسبوعيّاً بقيمة 200 شيكل (ما يعادل 50$)، إذ أصبح من داخل سجنه يعيل أسرته المكونة من سبعة أفراد، لافتاً إلى أنّ إدارة السجن توفّر لهم التسهيلات اللاّزمة لإتمام عملهم على أكمل وجه من دون أيّ مضايقات، إذ لا تقيدهم بساعات عملٍ محددة، كما تساعدهم على ترويج وبيع منتجاتهم خارج السجن .
أمّا النزيل أبو أحمد (52 عاماً) والمحكوم أيضاً 15 عاماً بتهمة الإتجار بالمخدّرات، والّذي قضى من محكوميّته 6 أعوام ، والّذي قابله "المونيتور" في مشغل الأعمال الحرفيّة، فأشار إلى أنّ هوايته منذ الصغر هي التطريز وصناعة البراويز الخشبيّة والمساند القطنيّة، لافتاً إلى أنّه كان يعمل لحسابه الشخصيّ في إعداد المطرزات اليدوية قبل أن تطلق المديريّة هذا المشروع في شهر يناير الماضي، إذ كان يبيع منتجاته داخل السجن وخارجه من خلال إحدى قريباته الّتي كانت تروّج لها.
وأوضح أنه في السابق لم يكن يُسمح له بإدخال الادوات الحادة، والاكتفاء فقط بإدخال الابرة غير المسننة، وقطع القماش الصغيرة وبعض الخيوط، ، وكان يعمل فقط خلال فترة النهار في زنانته، وذلك وفق قانون السجن إذ يتم إجبار السجناء على الخلود إلى النوم في المساء.
وعلى الرغم من أن مديريات الإصلاح والتأهيل تتبع وزارة الداخلية، إلا أنها تعتمد على اللجوء إلى المؤسسات الدولية والمحلية لجلب دعم المشاريع الشغيلية للسجناء، ولذلك لنقص الامكانيات المادية لدى حكومة حماس.
ومن موقعه، أكّد رئيس مجلس إدارة جمعيّة الرعاية اللاّحقة لسجناء "إدماج" سامح حمدان، وهي الجهة الممولة و المنفّذة لـ"مخبز الفاتح" أنّ نطق القاضي للحكم على السجين معناه البدء بالعمل في اي حرفة تتوفرها إدارة المديرية، وذلك للحدّ من انتشار الجريمة وتوفير مصدر إعالة لأسرته للحفاظ عليها من الإنحراف، إذ تنص المادة (41) من القانون رقم (6) لسنة 1998 بشان مديريات الإصلاح والتأهيل في القانون الفلسطيني على أن تعمل المديرية على تدريب النزلاء مهنياً وتنمية مهاراتهم وإكسابهم حرفاً أو مهناً مفيدة خلال مدة تنفيذ العقوبة، تساعدهم على كسب عيشهم بعد إطلاق سراحهم على أن يتم التدريب المهني النظري والعملي في ورش التدريب والتشغيل داخل المركز أو خارجه وفق النظم والتعليمات التي تصدرها المديرية العامة بهذا الخصوص، المقصود بالمركز هنا هو مقر مديرية الإصلاح والتأهيل
وأشار إلى أنّ "مخبز الفاتح" يقع ضمن برنامج "التمكين الإقتصاديّ للسجناء والمفرج عنهم"، الّذي أطلقته جمعيّة إدماج في بداية عام 2015، مبيناً أن جمعيّة "إصلاح البحرين" تكفلت بإنشاء مخبز الفاتح بمبلغ 140 ألف دولار، وقال: "إنّ عوائد وأرباح مخبز الفاتح سيتمّ إيداعها في صندوق الغارمين، إذ سيتكفّل الصندوق بدفع الغرامات الماليّة للسجناء غير القادرين على سداد ديونهم وتمّ احتجازهم بناء على ذلك".
وإلى جانب المعيار الرئيسي في تشغيل السجناء وهو إلتزامهم بتعليمات ولوائح السجن، فقد تمثّلت معايير اختيار السجناء العاملين في المخبز، وفق ما أكّد سامح حمدان، في الحاجة الإقتصاديّة الملحّة لعائلة السجين وسلامته الصحيّة وقدرته على العمل بجودة ومهارة فائقتين، وتم اختيارهم بالتوافق مع مديرية إصلاح وتأهيل الوسطى، إذ أكد على أن العمل بينهما متكامل لإنجاح المخبز.
ولفت حمدان إلى أنّهم أخضعوا السجناء إلى تدريب داخليّ قبل البدء بتشغيل المخبز، وقال: إنّ المخبز يعمل لمدّة 15 ساعة،وهو قادر على إنتاج بين 4000 و5000 رغيف من الخبز في الساعة، إذ يعمل فيه 20 سجين، ويعمل في كل وردية 10 سجناء لمدة 7 ساعات ونصف.
من جهته، أوضح مدير مديريّة "إصلاح وتأهيل" الوسطى شادي ياسين أنّ المديريّة تطبّق مشاريع تعليميّة وتشغيليّة عدّة للسجناء ليكونوا مواطنين صالحين للمجتمع، مشيراً إلى أنّهم يلجأون إلى القطاعات الخاصّة لتمويل المشاريع، وذلك لنقص الإمكانات الماديّة لدى الحكومة، وقال: "يتمّ تخيير السجين بالنشاط أو البرنامج الّذي يرغب فيه، ولكن قلّة البرامج التشغيليّة تجعلنا نضع معايير محدّدة للسجناء المستفيدين من المشاريع، إذ لا نستطيع إستعياب جميع السجناء".
وأشار شادي ياسين إلى أنّ النزلاء ينقسمون إلى ثلاث فئات، هي: فئة "أ" الّتي تحترم القانون وملتزمة في شكل كامل بالتعليمات من ناحية تنفيذ اوامر العساكر واحترامها، وعدم افتعال المشاكل مع السجناء الاخرين أو تحريضهم على الهروب من السجن، فئة "ب" وهي أقلّ درجة من الفئة الأولى ولا تلتزم إلاّ إذ كان عليها رقيب. أمّا فئة "ج" فهي الأشدّ خطورة ولا يتمّ تشغيلها إلاّ ضمن احتياط أمنيّ مشدّد إذ لا تلتزم بالتعليمات و لديها ميول عدوانية، مشيراً إلى أنّها لا تشكّل سوى 1 في المئة من النزلاء، وتم اعتماد هذا المعيار في التشغيل للحد من التجاوزات التي يمكن أن يحدثها النزلاء، مؤكداً على وجود كاميرات مراقبة في جميع ارجاء المديرية إلى جانب وجود الحراس.
وحسب الأنظمة المعمول بها داخل مديريّات الإصلاح والتأهيل في فلسطين، فإنّ أيّ مردود ماديّ يعود على المشاريع الّتي تنفّذها، يتمّ توريده إلى المديريّة، على أن يكون ثلث المردود للنزيل وأسرته، إذ تنص المادة (44) من قانون رقم (6) لسنة 1998 بشأن مديريات الاصلاح والتأهيل منح النزيل مقابل عمله في المركز أو خارجه أجراً تحدده الأنظمة والتعليمات.
وشاركت المديريّة، بالتّعاون مع سجن النساء في مديريّة إصلاح وتأهيل غزّة في 12 آذار/مارس، في معرض "إشراقة أمل" للمشغولات والمطرّازت اليدويّة من صنع النزلاء والنزيلات، وشهد المعرض إقبالاً ملحوظاً من قبل المواطنين، إذ تم بيع أكثر من ثلثي منتجاته.
وفي هذا السياق، قالت مديرة "سجن النساء" –وهو السجن الوحيد المخصص للنساء في قطاع غزة-، النقيبة أمل نوفل: "افتتحت المديريّة في بداية عام 2015 مشروعي المخبز الآليّ للمعجّنات والحلويّات للنزيلات والمشغولات والمطرّزات اليدويّة، بالتّعاون مع مؤسّسة إدماج، وبتمويل من جمعيّة قطر الخيريّة، بهدف مساعدة النزيلات على توفير حاجاتهنّ من خلال العائد الماديّ الّذي يتقاضينه، وإكسابهنّ مهارات وخبرة مهنيّة تمكنهنّ من العمل لاحقاً لدى خروجهنّ من السجن".
وأكّدت أنّه تمّ اختيار عدد من النزيلات وفق معطيات وشروط عدّة وإخضاعهنّ إلى تدريب مكثّف قبل السماح لهنّ بالعمل في المخبز.
إذاً السجين هنا لا يخرج من زنانته كما دخلها، ولكنه يخرج بحرفةٍ ومهنةٍ ، أو بشهادة علمية، إذ يُسمح للسجناء بإكمال تعليمهم، إلى جانب إعطائهم محاضرات في العلوم الشرعية والدينية والعلمية والادبية التي من شأنها أن تحسن مدارك التفكير والإدارك لدى السجين و تجعل منه مواطناً صالحاً للمجتمع .