يعمل الكرملين جاهداً على تجسيد فكرة إنشاء أربع مناطق عدم التصعيد ("آمنة") في سوريا حيث عاثت الحرب فساداً، في حين يحاول مساعدة الرئيس بشّار الأسد على استعادة السيطرة على الأراضي التي خسرها في الشرق. في ما يتعلّق بالغرب، تتحدث موسكو عن نهاية للحرب الأهلية بحكم الأمر الواقع، كما يكمن هدفها في إضعاف المعارضة السورية في السر. أما في ما يتعلّق بشرق سوريا، فتسعى روسيا جاهدة، ولو بتكتّم، للنأي بالنفس عن المواجهة الأمريكية-الإيرانية والإبقاء على قنوات التواصل مع واشنطن. كما تدعو إلى تخفيف النفوذ الأمريكي والكردي، وتحضّ الأوليغارشيين المؤيدين للكرملين على المساعدة في إصلاح الوضع الاقتصادي.
تبدو السياسة الروسية في سوريا ناجحة، مما من شأنه أن يترك أثراً ايجابياً على الشعب الروسي قبل الانتخابات الرئاسية المقرّر عقدها عام 2018. الاّ أن مجموعة من المشاكل تعترض طريق موسكو عند المضي قدماً بخططها التكتيكية البحتة. تواصل القوات الحكومية السورية حربها في درعا، أما الجبهة الجنوبية – تحالف المتمرين الذي بالكاد استطاع الوقوف في وجه النظام حتى مؤخراً - فقاطعت الجولة الخامسة من المفاوضات التي استؤنفت في 4 تموز\يوليو في أستانا، كازاخستان.
يرى بعض المحللين الروس، الذين يستندون إلى مصادر لهم داخل وزارة الخارجية ووزارة الدفاع، أن القادة العسكريين والسياسيين الروس على يقين أن إيران والأسد يعتزمان منع الخطة الأممية للسلام من أن تكلل بالنجاح. (اعتمد مجلس الأمن بالإجماع الخطة، القرار 2254، في أواخر عام 2015.). كما يعرب المحللون عن قلقهم من أن تحاول كلّ من طهران ودمشق إقناع موسكو بالامتناع عن التعاون هي أيضاً.
تقف روسيا علناً إلى جانب حلفائها. فبهدف تبرير اطباق الحصار على مدينة الطبقة على يد الحكومة السورية،على سبيل المثال، تمادت موسكو إلى حد اتهام الولايات المتحدة والأكراد المتحالفين مع قوات سوريا الديمقراطية بالتواطؤ مع تنظيم الدولة الإسلامية (داعش). كما حذّرت روسيا من أنها ستستهدف الطائرات الأمريكية التي تحلّق غرب نهر الفرات، على الرغم من أن الطائرات الأمريكية بالكاد تشتغل هناك.
تكمن النقطة الأضعف في خطة مناطق عدم التصعيد الروسية في كيفية محاربة القوى الراديكالية في حال وجد الأسد نفسه مضطراً على شن هجوم من خلال الأراضي التي تسيطر عليها المعارضة المعتدلة، بما أن الأسد قد وقّع هدنة مع المعتدلين. إن تفاقم الوضع بين الأكراد وقوات الأسد يمنح تركيا مزيداً من الوقت في ما يتعلّق بادلب، الواقعة في مناطق سيطرة هيئة تحرير الشام، التحالف بين مجموعات المعارضة الراديكالية. الاّ أن من شأن التفاقم هذا لا يشجّع اللاعبين الجدد على الدخول في التسوية السلمية، التي كان الكرملين ليرحّب بها.
لا تشعر تركيا بالرضى عن نتائج عملية درع الفرات. اذ لم تتمكن أنقرة سوى من تأمين مساحة قدرها 2,015 كيلومتر مربع (778 ميل مربّع) شمال حلب - أي نصف المساحة المقدّرة بـ 5,000 كيلومتر مربع (1,931 ميل مربع). كما فشلت العملية في إقناع الإدارة الأمريكية الجديدة بعدم الاعتماد على وحدات حماية الشعب الكردية في عملية اقتحام الرقة. كما أصرّت أنقرة خلال المحادثات في أستانا على توسيع منطقة عدم التصعيد الشمالية، ليس فقط إلى محافظة إدلب، وإنما أيضاً إلى المناطق المتاخمة والأراضي التي تسيطر عليها المعارضة في اللاذقية وحلب وحماة. ترى تركيا أن هذه الأراضي مناطق نفوذ محتملة لها، نظراً إلى تعاون السكان المحليين والجماعات المسلحة المعتدلة هناك مع الأتراك.
أفاد مصدر مقرّب من أجهزة المخابرات الروسية، الذي تحدّث إلى "المونيتور" شرط عدم الكشف عن اسمه، إن "موسكو" نظرت في خيارين يتعلّقان بإدلب. يكمن الأول في دعم تقدم القوات الموالية للأسد، مما من شأنه أن يتسبب حتماً بالتصعيد وزجّ روسيا أكثر في النزاع السوري والتأثير على سياستها الخارجية واقتصادها وأمنها الداخلي. أما الخيار الثاني فيكمن في التعاون الوثيق مع تركيا. أن أنقرة متردّدت في ما يتعلّق الترحيب باللاجئين السوريين الجدد على أرضها، إلا أنها مستعدة لإرسال قواتها الخاصة لدعم جماعات المتمردين "المعتدلين" ضد هيئة تحرير الشام مقابل تنازلات ذات صلة والأكراد السوريين.
يولّد السباق لاكتساب أقصى قدر من الأراضي شرق سوريا ظروفاً مناسبة لدمشق وأنقرة. إذ أن علاقة كل منهما صعبة مع الأكراد، كما بإمكانها إيجاد أرضية مشتركة من خلال التعاون ضدهم.
بعد إسقاط الولايات المتحدة السوخوي سو-22 التي قيل أنها هاجمت قوات سوريا الديموقراطية، انسحب لواء المعتصم - وهو فصيل من الجيش السوري الحر ويحظى بدعم تركيا - من محادثات مع قوات سوريا الديمقراطية حول استيلاء المعتصم على 11 قرية من الأكراد. كما أغلقت قوات الأسد طريق حلب-عفرين، في حين شرعت تركيا على إعادة نشر قواتها وعتادها جنوب أعزاز وغربها وذلك لشن هجوم ضد حزب العمال الكردستاني في تل رفعت وعفرين.
أكّد مصدر داخل وزارة الدفاع الروسية لـ "المونيتور" أن موسكو وأنقرة نسّقتا هجوماً مشتركاً يخوّل تركيا تحقيق هدفين: إضعاف حزب الاتحاد الديمقراطي القومي الكردستاني الذي تدعمه الولايات المتحدة، وهو فرع من فروع حزب العمال الكردستاني في كردستان، والحصول على موطئ قدم يسمح بمواصلة الأنشطة المتعلّقة بحفظ السلام ضد هيئة تحرير الشام، التي ليست بطرف في الهدنة.
وقال المصدر "ان الاتفاق الأولي يشير ضمناً إلى بقاء مجموعة صغيرة من المستشارين العسكريين الروس في عفرين للعمل كوسطاء بين الأكراد والأسد. تسيطر تركيا بدورها على مواقع تعتبرها حيوية".
غير أنه لم يكن مؤكداً ما إذا كان الاتفاق قد تطرّق إلى 41 منشأة تابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي وحزب العمال الكردستاني في شمال محافظة حلب ووفّر ممراً من عزاز إلى إدلب. ومن شأن الممر أن يربط منطقة نفوذ تركية شمال حلب بمناطق المعارضة في إدلب، مما قد يضعف الأكراد ويدفع بهم ليصبحوا أكثر تعاوناً مع روسيا والأسد.
وأضاف المصدر "أنه تحرص موسكو على تأمين ولاء كردي لدمشق، كما تريد معاقبة الأكراد بطريقة ما على إعطاء الأولوية للعلاقات مع الولايات المتحدة على حساب التعامل مع الجيشين السوري والروسي. الاّ أنها تعارض القتال فى جميع انحاء عفرين".
تريد أنقرة السيطرة على الأجزاء الشرقية والجنوبية لا غير من كانتون عفرين، وذلك لربط إدلب بالمنطقة التي تم استردادها خلال عملية درع الفرات. الاّ أنه وبحسب الأكراد، تريد تركيا السيطرة على كانتون عفرين بأكمله. وقال المصدر انه في حال أوقفوا الهجوم على معقل داعش في الرقة لنقل القوات إلى عفرين، "يمكن لذلك أن يتسبب بخسائر في صفوف المدنيين وبردّ أمريكي صارم".
لا يمكن نظرياً للقوات التركية الانضمام إلى العملية ضد هيئة تحرير الشام في حال نشرها في المنطقة الآمنة في إدلب. وفي حال أرادت تحقيق الإثنين معاً، تصبح القوات فريسة سهلة للجماعات الراديكالية. قالت مصادر "المونيتور" المقرّبة من مسؤولين عسكريين في تركيا إن أنقرة تنظر في إنشاء عدة منشآت عسكرية في إدلب. وستحظى تركيا بدعم من قوات المعارضة التي شاركت في عملية درع الفرات في السابق.
وأفادت التقارير أنه تم نشر مجموعة عسكرية تركية روسية مشتركة في جبل الشيخ بركات على حدود محافظة إدلب. يمكن للقوات التركية الوصول إلى إدلب عبر منطقتين - إما من بلدة عتمة الحدودية إلى مدينة دارة عزة وجبل الشيخ بركات غرب حلب، أو عبر سلقين وحارم. لا تملك موسكو سوى خيار الاعتماد على تركيا لفصل الجماعات المعارضة التي قد تفترض جدلاً شن حملة عسكرية على الجهاديين الرديء السمعة، وإغراء بعض الجماعات غير المرتبطة بالقاعدة للانضمام إلى أحرار الشام. وقد تمّت بالفعل هذه المحاولات. ومع استمرار الضغط على هيئة تحرير الشام، قد يرغب بعض مقاتليها في الانضمام إلى مجموعات "معتدلة" أخرى.
الاّ أن هذه السيناريوهات معقدة في الوقت الحاضر، إذ تسيطر وحدات مختلفة من هيئة تحرير الشام على 80 من أصل 156 مجلس محلي في إدلب. تنسف هذه السيناريوهات المعقدة والآلية غير المدروسة لوقف إطلاق النار جهود موسكو لحفظ السلام لإشراك أقرب حلفاء لها من بين دول ما بعد الاتحاد السوفيتي: أي كازاخستان وقرغيزستان.
قال رئيس لجنة الدفاع في مجلس النواب الروسي فلاديمير شامانوف في 22 حزيران/يونيو انه تم وضع مقترحات لكازاخستان وقرغيزستان، حليفتي روسيا في منظمة معاهدة الأمن الجماعي، للانضمام إلى الحملة العسكرية في سوريا. وفي اليوم التالي، نفت السلطتا كلا البلدين تقارير حول المفاوضات. وتم تقديم اقتراح مماثل إلى أرمينيا التي تقوم قوات أمنها منذ فترة طويلة بعمليات سرية في سوريا لحماية المناطق العرقية الأرمنية.
وقد اكتسبت القوات الأرمينية خبرة كبيرة في حفظ السلام في العراق وكوسوفو وأفغانستان ولبنان. وقال مسؤول في المجمّع الصناعي العسكري الروسي لـ "المونيتور إن "كتيبة حفظ السلام الكازاخستانية قد انضمّت الى عمليات نزع الألغام في العراق. صحيح أنه تمّ استخدام أستانا كمقاربة متعددة الأوجه، وأنها لم تألوا جهداً كي يتم اعتبارها وسيط موثوق به، إلا أنها قد تضطر إلى نشر وحدة عسكرية صغيرة. قد تجد قرغيزستان نفسها مضطرة لأن تحذو حذوها، بما أن روسيا قد شطبت مؤخراً ديون قرغيزستان الجديدة".
باختصار، في حال اشتعال الوضع بين الأكراد ودمشق، قد تستغل تركيا ذلك لاتخاذ إجراءات خاصة بها، وتتنكّر لاتفاقياتها مع موسكو. قد تقنع روسيا في المقابل حلفاءها في منظمة معاهدة الأمن الجماعي بالحاجة إلى إرسال قوات إلى سوريا - على الرغم من أن ذلك لن تكون بالأمر السهل.
ومع ذلك، وبناءً عليه، ليس بالموقف الروسي تجاه الأكراد ثابتاً. فاعتراض روسيا على العملية التركية كوسيلة تجعل الأكراد يدفعون ثمن التعامل مع واشنطن ليس بقوي. إلا أنه من المفترض أن يكون وجود القوات الروسية في عفرين دليلاً رسمياً على الدفاع عن الأكراد، على الرغم من أن القوات الروسية لن تعوّق الهجوم التركي. ومع ذلك، هناك خطر كبير من أن يولّد تدخل خارجي في إدلب تحالفات جديدة في المعارضة، لا انقساماً بين فصائل "معتدلة" وأخرى "راديكالية".