مازال البرلمان العراقي عاجزاً عن المصادقة على مشروع الميزانية العامة للعام 2014 ، مما دفع رئيس الوزراء نوري المالكي الى التحذير من احتمال حصول أزمة مالية كبيرة وتعطيل لمؤسسات الدولة.
هذا التأخر في تشريع قانون الميزانية يعود أساساً الى استمرار الخلاف بين بغداد وحكومة إقليم كردستان حول حصة الإقليم من الميزانية. وبحسب عضو في ائتلاف رئيس الوزراء، فان الكرد يطالبون بنسبة 17% من الميزانية دون استقطاع عائدات 400 ألف برميل نفط يصدره الإقليم يومياً.
وتطالب بغداد الإقليم بأن تخضع صادراته النفطية لأشراف مباشر من شركة النفط الوطنية (سومو) الخاضعة لسلطة الحكومة العراقية، وهو ما يرفضه الإقليم . من جهتها، تجادل القوى الكردية بأن الحكومة المركزية تتجاوز على الدستور الذي منح الإقليم صلاحية الاشراف على موارده، وإنها في الحقيقة تستقطع من الحصة المقررة لإقليم كردستان والتي تم اعتمادها في الميزانيات السابقة. وقد عقدت تلك القوى اجتماعا في 23 فبراير في أربيل وأصدرت بيانا أكدت فه بأن للإقليم الحق بـ"استلام حصته من واردات العراق" ، واستمرار المفاوضات مع بغداد بهذا الشأن ، ومطالبة المالكي بالتخلي عن هذه "السياسة غير القانونية وغير الدستورية".
وذكر تقرير "مستقل" أعدته حركة التغيير الكردية حول الميزانية العراقية ان الحصة الفعلية التي منحتها الميزانية لكردستان هي 9.9% ، وان الحكومة تتوقع من الإقليم تصدير ما قيمته 400 ألف برميل يومياً تحت اشرافها ، مقارنة بـ 250 ألف في العام الماضي. وتطالب الحكومة ، بحسب التقرير ، ان يتم تدقيق عوائد النفط الكردي من قبل مدققين في بغداد وأربيل وان تدفع أربيل عوائد صادراتها الى بغداد شهرياً ، وهي شروط تعتبرها حكومة الإقليم مجحفة .
وقد جاء تأخر تسديد الحكومة المركزية في دفع الميزانية الخاصة برواتب الموظفين العموميين في كردستان ليؤجج المشكلة أكثر ، الى حد ان رئيس الإقليم ، مسعود برزاني ، وصف هذا الاجراء بانه "اعلان حرب" معتبراً ان الحكومة تمارس حصاراً على الإقليم.
ويبدو ان المفاوضات بين الجانبين تتواصل في ظل تمسكهما بمواقفهما ومع اقتراب موعد الانتخابات العامة التي غالبا ما تدفع القوى السياسية الى تبني مواقف غير مرنة من اجل كسب تأييد قواعدهم الجماهيرية. ففي حين يشدد خطاب حكومة كردستان على ما يتعرض له الإقليم من ظلم، والتركيز على الجانب العاطفي فيما يخص قطع أو تأخير رواتب الموظفين ، فان وسائل الاعلام المقربة للحكومة تتحدث عن الحاجة للتصدي لمحاولات الكرد الحصول على اكثر مما يستحقون ، وتمويل اقليمهم "شبه المستقل" من نفط جنوب العراق.
مع ذلك ، فان هذه المواقف لا تخفي وجود انقسامات ، خصوصا بين القوى الكردية نفسها . فبعض النواب المنتمين الى الحزب الديمقراطي الكردستاني ذهبوا الى التهديد بان الإقليم سيتخذ "خياراته الخاصة" في حال لم تغير الحكومة المركزية موقفها، وهو إشارة الى التهديد بالانسحاب من العملية السياسية او الانفصال. بينما بدا ان المسؤولين المرتبطين بحزب الاتحاد الوطني الكردستاني متحفظين تجاه هذه المواقف المتشددة الى حد التصريح بان حكومة إقليم كردستان تتحمل مسؤولية الأزمة بسبب "سياساتها النفطية الفاشلة" . كما ان قادة في حزب الاتحاد الوطني الكردستاني التقوا المالكي بشكل مستقل وناقشوا معه موضوع الميزانية.
غير ان مشاكل الميزانية الراهنة لا تقتصر على الازمة بين بغداد وأربيل ، بل تشمل جوانب أخرى او ما يمكن تسميته بالمشاكل الهيكلية. فقد ذكر مسؤول في صندوق النقد الدولي ان مشروع الميزانية المقترح لم يحل إشكالية الاعتماد شبه الكلي من العراق على عائدات النفط وما يخلقه ذلك من مخاطر محتملة في حالة تراجع أسعار النفط . فالميزانية البالغة حوالي 150 بليون دولار تفترض استقرار أسعار النفط عند قيمة 106.1 دولار للبرميل الواحد ، لكن أسعار النفط من المحتمل أن تتراجع في هذا العام مما سيتسبب باستمرار العجز في الميزانية الذي حصل لأول مرة في العام الماضي بعد سنوات من توفر فائض مالي. المسؤول في صندوق النقد الدولي ابدى قلقه أيضا من ان تفكر الحكومة العراقية بتعويض العجز عن طريق وضع يدها على الاحتياطي النقدي للبنك المركزي مما قد يؤدي الى اضعاف العملة وتحفيز التضخم.
بالإضافة الى ذلك، هنالك اتفاق على وجود مؤشر سلبي آخر يتمثل بتراجع تخصيصات الاستثمار الى حوالي 36% من الميزانية مقابل تضخم النفقات الخاصة بالحوكمة مما قد ينعكس سلباً على تحسين الخدمات العامة والبنية التحتية الاقتصادية. وبحسب التقرير الذي أعدته حركة التغيير الكردية فان مشروع الميزانية يفتقر الى أي رؤية اقتصادية، ويخلو من أي مبادرات لتعزيز الإنتاج المحلي وتنويع مصادر الدخل وتقليل الصادرات وخلق وظائف جديدة. كما ان هناك زيادة في النفقات العسكرية على حساب النفقات الصناعية والزراعية.
ويمكن الاستنتاج مما تقدّم ان مشاكل الميزانية العراقية تعيد انتاج الصراعات التقليدية التي تشهدها الدول الريعية شديدة الاعتماد على عائدات النفط. فالصراع بين بغداد وأربيل هو صراع على حصة كل طرف من هذه الموارد وحول كيفية ادارتها، وليس صراعا بين رؤيتين اقتصاديتين مختلفتين، فكردستان اليوم ليست أكثر من إقليم ريعي داخل دولة ريعية. اما مشكلة الاعتمادية على موارد النفط فإنها توضح ان الانتعاش المالي الذي شهده العراق في السنوات الأخيرة بفعل زيادة صادرات النفط وارتفاع أسعاره هو انتعاش مؤقت، وان استمرار أساليب الصرف السائدة وغياب الحلول الاستراتيجية لمشكلة الاعتماد على النفط، يمهد لأزمات اقتصادية حادة في المستقبل المنظور.