رفح، قطاع غزّة - تزداد معاناة مزارعي غزّة منذ بدء الحصار الإسرائيليّ في عام 2006، ورغم إعلان وزارة الزراعة عن الوصول إلى مراحل الاكتفاء الذاتيّ، إلاّ أنّ تذبذب الدّعم الدوليّ و منع إسرائيل تصدير المنتجات الزراعيّة، أدّى إلى تدمير مصدر الرزق الوحيد لهم، لا سيّما بعد الحرب الإسرائيليّة الأخيرة.
وفي الجزء الغربيّ لمدينة رفح - جنوب قطاع غزّة، وخلال جولة مراسلة "المونيتور"، لم تتوقّف طائرات الاستطلاع الإسرائيليّة عن التّحليق فوق الأراضي الزراعيّة الشاسعة، ولم تجد سوى مزارع واحد يزرع الورد. وهناك قطفت "المونيتور" آخر ورود "القرنفل الأميركيّ"، الّتي زرعت في القطاع، الّذي اشتهر بتصدير الورود إلى العالم، بعد أن امتنع جميع المزارعين عن زراعته، بسبب توقّف الدّعم الهولنديّ هذا العام.
ويشار إلى أنّ الزهور المزروعة لم تكن بالمواصفات الدوليّة الّتي اعتاد القطاع على إنتاجها في كلّ عام، فهي محض شتلات أرهقها الزمن، صنعها المزارعون بأيدهم من شتلة أمّ إسرائيليّة، لأنّهم أصبحوا غير قادرين على شراء الأشتال، وهي تنتج موسمها الأخير، للسوق المحليّة، الّتي يندر طلبها على الزهور، نتيجة الوضع الاقتصاديّ المترديّ.
وفي هذا السّياق، قال مدير دائرة التّسويق في وزارة الزراعة تحسين السقا لـ"المونيتور: "كانت الحكومة الهولنديّة تنفّذ مشروعاً لدعم المزارعين بالشتول والموادّ اللاّزمة لزراعة الورود بنسب تقلّ كلّ عام منذ عام 2010، لكنّها أوقفت الدّعم كليّاً هذا العام، ولم يستطع المزارعون بعدها تحمّل تكاليف زراعتها، فتوقّف إنتاج الزهور".
وقال المزارع زياد حجازي 41 عاماً، خلال جولة بين الحمّامات الزراعيّة الخاصّة به، والّتي تتقلّص عاماً بعد آخر، وهي واقعة في غرب رفح، متحسّراً على حاله: "قبل سنوات، كنت أتجوّل بين صفوف الورد على مساحة 100 دونم، وأشرف على عشرات العمّال، وأتحضّر للتّصدير. أمّا الآن فلقد ذهب كلّ شيء، نتيجة توقف الدعم الهولندي".
وأشار السقا إلى أنّ "قطاع غزّة كان ينتج على مساحة تزيد عن 600 دونم، 50 مليون زهرة للتّصدير سنويّاُ قبل الحصار، و150 مليون زهرة سنويّاً في فترة سنوات الحصار، لكن هذا العام لا يوجد أكثر من 5 دونمات مزروعة للاستهلاك المحليّ"، وقال: "كان الدّعم الهولنديّ العامل الأساسيّ لزراعتنا الورود، حتّى توقف نهائيّاً في العام الماضي، ولا يمكننا الاستمرار في زراعته بلا دعم، حتّى وإن زرعناه فلا قدرة لنا على تغطية التكاليف الباهظة من دون التصدير إلى الخارج، نتيجة إغلاق المعابر".
ولم يتبق اليوم لـحجازي، الّذي زادت ضائقته الاقتصاديّة وتراكمت عليه الديون سوى 20 دونماً استأجرها، حيث يزرع على 19 دونماً منها الخضروات، بدل الزهور للسوق المحليّة، وبأسعار زهيدة، وبالكاد تسدّ رمق أطفاله على حدّ قوله. إلى جانب دونم واحد فقط، وهو الّذي يشهد آخر زراعة لورد القرنفل، بعد ازدهار تجارته لسنوات.
وعبّر حجازي عن عدم جدوى الدونم المزروع، مسترجعاً ذكرياته بالقول: "في بدايات سنوات الحصار، عندما كانت تغلق المعابر وتمنعنا من التّصدير، كنت أطعم الأغنام ورود التّصدير الّتي تضاهي جودة هذه الشتول مئات المرّات.
ومن ناحية أخرى، لم يكن حال مزارعي الفراولة، وهي أشهر صادرات غزة ايضاُ، أفضل من حال مزارعي الورد. فرغم إعلان إسرائيل عن جملة من التسهيلات لقطاع غزة،عقب الحرب الأخيرة، من ضمنها السماح بتصدير الفراولة من غزّة إلى الضفّة، في نوفمبر الماضي، بعد منع طال لسنوات، لكن القرار لم يدم طويلاً، حيث عادت مجدّداً لمنعها من دخول الضفّة في منتصف يناير الماضي، إثر العثور على صناديق من الفراولة الفلسطينيّة مهرّبة من الضفّة إلى الأسواق الإسرائيليّة، حيث تباع بسعر أرخص منها.
وقال السقا لمراسلة" المونيتور": "إنّ القرار الإسرائيليّ بسماح التّصدير لم يؤدّ إلى تصدير كميّات كبيرة، من الفراولة، كما ولم يسمح بعد بتصدير الخضروات من غزّة إلى أوروبا، والّتي تباع بأسعار رخيصة في السوق المحليّة، نتيجة الوصول إلى نسبة 98 في المئة من الاكتفاء الذاتيّ من الخضروات، وسمحت إسرائيل بتصدير البندورة فقط إلى الأردن".
كما وأضاف السقا: "إنّ خسائر صادرات غزّة الزراعيّة، بلغت حوالى 40 مليون دولار سنويّاً، منذ بدء الحصار في عام 2006 حتّى الآن".
ومن جهته، قال مزارع الفراولة في بيت لاهيا بكر أبو حليمة لـ"المونيتور": "إنّ عدم قدرته على تصدير الفراولة إلى الضفّة أو أوروبا، أدّى إلى إغراقها السوق المحليّة، وسط عزوف عن شرائها لارتفاع سعرها، لأن سعرها في بدلية الموسم-في ديسمبر- يكون مرتفع".
وأوضح أبو حليمة أنّ السوق المحليّة لا توفّر ظروفاً مناسبة لبيع الفراولة، وقال: "إنّ الوزارة قرّرت منع استيراد المنتجات الزراعيّة الّتي لها بديل محليّ، لكن أيّهما أفضل للمستهلك ذي القدرة الشرائيّة الضعيفة، أن يشتري 4 كيلو من البرتقال الإسرائيليّ أم كيلو فقط من الفراولة المحليّة بالسعر نفسه؟ في وقت لا نستطيع فيه إجبار المستهلك، إن تّصديرمنتجاتنا هو أملنا الوحيد".
ونتيجة لذلك، فإنّ العزوف عن الشراء وتكدّس كميّات كبيرة في السوق المحليّة، نتيجة زيادة إنتاج الفراولة في منتصف الموسم وحتى نهايته- في مارس- مقارنة مع بدايته، أدّى إلى انخفاض أسعار الفراولة المخصّصة للتصدير، لتباع بأقلّ مما يمكن من سداد تكاليفها.
والجدير ذكره، أنّ وزارة الزراعة ، بغزة، منعت في العام 2012 استيراد الفواكه الإسرائيليّة، بعد الوصول إلى نسبة اكتفاء ذاتيّ تقارب الـ 70 في المئة، ما عدا الفواكه الّتي يعجز الإنتاج المحليّ عن تغطية حاجات السوق منها، فقد سمحت باستيرادها بعد انتهاء المنتج المحليّ كالحمضيّات.
ومن جهته، قال المدير الفنيّ لمؤسّسة الإغاثة الزراعيّة في غزّة مجدي دبّور لـ"المونيتور: "لا يوجد دعم حكوميّ كاف للمزارعين، ولا حتّى تعويضات ما بعد الحرب نتيجة للانقسام السياسيّ، ممّا يضعف قدرات المزارع الفلسطينيّ. وإنّ المؤسّسات الدوليّة تميل إلى دعم الأخرى المحليّة أكثر من وزارة الزراعة. لذلك، نقوم بتنفيذ برامج مساعدة للمزارعين بعد الحرب، بعد أن تقوم الوزارة بتحويلهم إلينا لأنّها لا تستطيع التّعويض عليهم".
وعبّر دبور عن مشكلة المزارعين بقوله: "لا توجد خطة تسويق للمزارعين، فالبحر مغلق، والحدود الإسرائيليّة ومعبر رفح كذلك، وإنّ قدرتنا على الوصول إلى اكتفاء ذاتيّ من الخضروات فقط في ظلّ هذه الظروف هو إنجاز وطنيّ كبير".
وتبقى حياة المزارع الفلسطينيّ رهينةً بين سندان السياسات الحكوميّة الّتي ما زالت تعاني من أزمة الانقسام السياسيّ، ومطرقة السياسات الإسرائيليّة الّتي تمنع التّصدير وتتحكّم بالمعابر وترفع تكاليف النّقل عبر حدودها حتّى وإن فتحت باب التّصدير، ليحرم مزارعو غزّة من سعادة التّصدير الدوليّ.