القاهرة: يُعتبر النحت في عظام الجمال حرفة توارثتها المصريّات في صعيد مصر منذ آلاف السنوات، منذ العصر الفرعونيّ تحديداً، ولم يتبق في مصر من يتقنها بشكل احترافيّ في الصعيد حاليّاً.
وفي هذا السياق، قالت سحر مبارك، وهي من نّحاتي عظام الجمل القلائل في مدينة قوس في محافظة قنا: إنّ حرفة النحت على عظام الجمال تواجه مشكلات عدّة، أبرزها التمويل لغلو سعر عظام الجمل، التي تعتبر حاليّاً بديل العاج بعد تحريم تجارته دوليّاً. وأشارت إلى أنّ ما يميّز عظام الجمل عن غيرها هو صلابتها وقدرتها على الحفاظ على متانتها ولونها الأبيض، ربّما لآلاف السنين.
وتستخدم عظام الجمل في المنحوتات والقلائد والمسابح. يُفضل السياح من دول الخليج والعرب القلائد والمسابح ، في حين يسعى السياح من أوروبا وروسيا إلى شراء التماثيل.
وقالت: "توافرت حاليّاً الحلول للمشكلتين السابقتين من خلال بعض مبادرات حماية الحرف التاريخيّة، وعلى رأسها المبادرة المصريّة للتنمية المتكاملة (منظّمة أهليّة غير هادفة للربح معروفة إعلاميّاً باسم "النداء")، والتي وفّرت لنا التمويل لشراء العظام والتدريب على أيدي حرفيّي هذه المهنة من ورش خان الخليلي. لم يعد في مصر من يتقن تلك الحرفة حاليّاً، إلاّ عدداً محدوداً من الحرفيّين في منطقة خان الخليلي بالقاهرة والـ27 سيّدة اللّواتي تدرّبن عليها من قوص".وأشارت إلى أنّ نحت عظام الجمل موجود في مصر منذ العصور الفرعونية.
وما قالته مبارك أكّده أستاذ علم المصريّات في جامعة القاهرة أحمد عيسى، إذ قال لـ"المونيتور": إنّ المنحوتات الأولى المصنوعة من عظام الحيوانات عموماً يعود عمرها إلى الأسرة صفر أيّ ما قبل توحيد قطريّ مصر، مملكة الشمال ومملكة الجنوب، على يدّ نارمر موحّد القطرين في عام 3200 قبل الميلاد.
وأشار إلى أنّ النحت البدائيّ في عظام الحيوانات أو باستخدام الطمي ظلّ هو الشائع في مصر حتّى عصر الملك زوسر (2686 – 2600 ق.م)، حيث أدخل استخدام الجرانيت في نحت المعابد والمسلّات وبناء الأهرامات والتماثيل الضخمة، مؤكّداً أنّ النحت في عظام الحيوانات وباستخدام الطمي ظلّ الشائع عند المصريّين البسطاء في تزيين منازلهم على أيدي السيّدة المصريّة الفرعونيّة، وأصبح استخدام عظام الجمال الأكثر شيوعاً بين الحيوانات بعد أن أدخل الاحتلال الفارسيّ الجمال إلى مصر في عام 530 ق.م.
وقال أستاذ النحت في كليّة التربية النوعيّة بجامعة المنصورة محمّد الشوربجي لـ"المونيتور": "تستمدّ حرفة النّحت في عظام الحيوانات قيمتها من أنّها الحرفة التي تؤكّد عشق الإنسان المصريّ للفنّ أيّاً كانت طبقته ومستواه الاقتصاديّ، وإنّ حتّى الإنسانّ المصريّ القديم، الذي لا يملك إلاّ عظام بعض الحيوانات، استطاع أن يصنع منها تحفاً تزيّن بيته. كما أنّ النحت في عظام الحيوانات، وتحديداً الجمال، يعتبر من أدقّ أنواع النحت وأصعبها، الأمر الذي يزيده قيمة".
وعن بقيّة المشكلات التي تواجه الحرفة والسيّدات العاملات فيها بمصر، قالت ر.م، وهي إحدى سيّدات "قوص" العاملات بحرفة النحت في عظام الجمال، لـ"المونيتور": "تواجه الحرفة مشكلة كبرى في التوزيع بسبب تراجع السياحة في مصر لأنّ أغلب من يشترون مصنوعاتنا كانوا من الأجانب، ويجب أن يكون هناك بديل عن انتظار عودة السياحة كأن تنظّم معارض عالميّة لمنتجاتنا أو أن يتمّ تصديرها لأنّ أغلب من كانوا يتقنون الحرفة تركوها لضعف العائد الماديّ منها".
ودعت ر.م الحكومة إلى تبنّي برنامج منظّم لحماية الحرف والصناعات اليدويّة، وعلى رأسها حرفة النحت في عظام الجمال، مشيرة إلى أهميّة الدور الحكوميّ، إلى جانب منظّمات المجتمع المدنيّ مثل "النداء"، لافتة إلى أنّه كانت هناك مبادرات عدّة لحماية الحرفة ودعم العاملين فيها، إلاّ أنّها توقّفت ولم تسفر عن نتائج بسبب ضعف الاهتمام الحكوميّ.
ويذكر أنّ جمعيّة تنمية المجتمع (منظّمة مجتمع مدنيّ) كانت قد نظّمت ورش عمل في آذار/مارس من عام 2014 لتدريب 12 سيّدة وفتاة من مركز الكراتيّة في محافظة قنا على النحت في عظام الجمال، إلاّ أنّه لم يتمّ تداول أيّ أنباء عن استمرار برنامج التدريب أو أيّ معارض لعرض منتجات الورش وبيعها أو توزيعها.
من جهتها، أشارت مديرة المبادرة المصريّة للتنمية المتكاملة "النداء" هبة حندوسة في حديث لـ"المونيتور" إلى أنّ المبادرة حريصة على التواصل بشكل دائم مع الحكومة بشأن حماية الحرف واستغلالها لتوفير مصدر دخل للأسر الفقيرة والمتوسّطة، وتحديداً في الريف والصعيد، لافتة إلى أنّ انصراف الحكومة المصريّة عن الاهتمام بتلك الحرف جاء نتيجة الأزمات الاقتصاديّة التي أحاقت بمصر منذ عام 2015، مؤكّدة أنّ الحكومة ستولي اهتماماً خاصّاً بأصحاب الحرف والصناعات اليدويّة في أقرب وقت.
وقال مصدر في ديوان محافظة الأقصر، فضّل عدم نشر اسمه، لـ"المونيتور": "بدأ المحافظ بالفعل في الاهتمام بالصناعات اليدويّة من خلال تشجيع منظّمات المجتمع المدنيّ على تدريب الحرفيّين وتقديم التسهيلات إليهم مثل توفير مقرّات التدريب وتنظيم معارض المنتجات. كما تسعى المحافظة إلى تسهيل إجراءات الحرفيّين الراغبين في الحصول على القروض لتمويل مشاريعهم وتأسيس ورش لاحتراف صناعة يدويّة محدّدة. وأخيراً، تسعى المحافظة إلى فتح قنوات اتّصال دائمة مع الوزارات المعنيّة لترويج منتجات تلك الورش وتوزيعها".