إذا كانت مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب، تقتضي في جزء منها، إمكان الوصول إلى أكبر قاعدة ممكنة لحركة الأموال، فهذا يعني أنّ المطلوب إدخال أكبر عدد من الناس ضمن القطاع المصرفيّ والماليّ العاديّ، حيث يصبحون يجرّون معاملاتهم الماليّة عبر هذا القطاع، وتصير مراقبتهم أسهل والمعلومات حولهم أكبر ومتوافرة أكثر. لكن ما هي السبل لتحقيق ذلك؟ هذا ما ناقشته جلسات المؤتمر الذي دعا إليه اتّحاد المصارف العربيّة، بالتعاون مع البنك المركزيّ المصريّ، وعقدت أعماله في شرم الشيخ في مصر بين 17 و19 أيلول/سبتمبر 2015، والذي شارك فيه موقعنا.
شرح أحد المسؤولين المصرفيّين المصريّين لموقعنا أنّه بعد سلسلة الأعمال الإرهابيّة التي ضربت أكثر من بلد عربيّ، أو التي استهدفت الدول الغربيّة انطلاقاً من الشرق الأوسط، بات واضحاً أنّ مجرّد الالتزام بتطبيق قوانين مكافحة التبييض أو تمويل الإرهاب، لا تكفي في منطقتهم. يشرح المسؤول الذي فضّل عدم ذكر اسمه أنّه في الغرب، يمكن أن تكمن الثغرة الأكثر خطراً لناحية "التبييض والتمويل"، في خرق تلك القوانين أو التحايل عليها أو ضعف آليّات الضبط والمراقبة من داخلها أو سوء استخدام النظام المصرفيّ في حدّ ذاته، ولكن في بلدانهم الأولويّة مختلفة لناحية مكافحة أموال التبييض والإرهاب، وهي تكمن في أنّ قسماً كبيراً من أموال الناس يتمّ التداول به خارج النظام نفسه. ولذلك أصبحت الضرورة القصوى والملحّة إدخال غالبيّة الناس إليه أوّلاً. ولتحقيق هذا الهدف، كان لا بدّ من تصوّر وسائل عدّة ومختلفة، بحسب كلّ بلد وحالة. فمثلاً، في بيروت، يقول المصدر نفسه، إنّهم يعرفون منذ أعوام قليلة، بحكم التعاون القائم بين كلّ عواصم المنطقة حول هذه الملفّات، أنّه تبيّن للسلطات اللبنانيّة أنّ قسماً ملحوظاً من الأموال المشبوهة، يتمّ تحويله عبر ثلاثة قطاعات: تجارة السيّارات وتجارة المجوهرات ومكاتب الصيرفة وتبديل العملات. لذلك، وجدوا ووفقاً للمصدر نفسه أنّ السلطات الرسميّة اللبنانيّة صنّفت هذه القطاعات الثلاثة ضمن خانة المجالات العالية المخاطر مصرفيّاً. وهي تقتضي إجراءات مشدّدة جدّاً لناحية كلّ من يعمل فيها، كما لناحية كلّ معاملة ماليّة أو مصرفيّة تخصّ قطاعاً من هذه القطاعات الثلاثة.
في مصر، يتابع المصدر نفسه، أنّ لديهم مسألة أخرى أكثر إلحاحاً وأولويّة، وهي مسألة الحوالات الماليّة، أو التحويلات التي يقوم بها أشخاص من خارج مصر إلى داخلها، وهي مسألة عاديّة بالنسبة إلى أيّ مواطن مصريّ يعيش خارج بلاده أو يعمل خارجها. لكنّها مسألة تحمل مخاطر أمنيّة، مع كونها ضروريّة. ويقول إنّ لديهم نحو ثمانية ملايين مصريّ يعملون خارج مصر، وهم نفّذوا خلال العام الماليّ 2013–2014 مثلاً، أكثر من 50 مليون عمليّة تحويل ماليّ أو حوالة، مجموع قيمتها كان في العام نفسه نحو 20 مليار دولار أميركيّ. وهذا ما جعل مصر تحتلّ المركز الأوّل في الشرق الأوسط لجهّة التحويلات الماليّة إليها، والمركز السادس عالميّاً، علماً أنّ موضوع التحويلات هذه في شكل عام، يتابع المسؤول المصريّ نفسه، تتركّز حركتها من الدول المتقدّمة صوب الدول النامية، إذ تظهر دراسات المؤسّسات الدوليّة أنّ حجم هذه الحوالات في العالم كان في السنة المذكورة نفسها نحو 583 مليار دولار، لكنّ 440 ملياراً منها، أي أكثر من 75 في المئة منها، تمّ تحويلها إلى الدول النامية. وهذا مفهوم نظراً إلى حركة العمالة المهاجرة من الدول النامية صوب الغرب، والحركة المعاكسة لتحويلاتها الماليّة صوب بلدانها الأصليّة.
يتابع المسؤول المصريّ أنّ لديهم إذاً سنويّاً أكثر من 50 مليون تحويل ماليّ، بعضها بمبالغ صغيرة قد لا تتعدّى مئات قليلة من الدولارات. البعض قد يعتبرها بلا أهميّة رقابيّة، لكن يمكن لأيّ تحويل منها أن يكون عمليّة تبييض للإرهاب أو تمويل له. فكيف التعامل معها؟ لهذا، قامت السلطات المصريّة بتركيز جهد استثنائيّ من أجل ضمّ هذه الحوالات أو غالبيّتها إلى النظام المصرفيّ، لتصير سهلة الرقابة والرصد والمتابعة. وهو ما اقتضى سلسلة إجراءات، منها تسهيل التعامل المصرفيّ بالحوالات الماليّة، وتخفيف الكلفة عليها. وهي إجراءات إشكاليّة، لأنّها تحمل في حدّ ذاتها مفارقة متناقضة. فالمراقبة الدقيقة لأيّ عمليّة تحويل، تقتضي تشديد الإجراءات ووضع لائحة مطوّلة من الوثائق المطلوبة من قبل صاحب عمليّة التحويل، فيما محاولة ضمّ أكبر نسبة ممكنة من التحويلات إلى النظام المصرفيّ تقتضي على العكس، تخفيف الإجراءات وتسهيلها. هذه المفارقة هي ما يعمل المتخصّصون على حلّها عبر نظام تقييم المخاطر وتشخيص كلّ حالة بمفردها، من أجل إقامة مستويات عدّة من التصنيفات، بحسب الأشخاص والحالات، بين حالة عالية المخاطر تقتضي التشدّد، وحالة عاديّة، وثالثة متدنّية المخاطر، يمكن التعامل معها حتّى بإعفائها من بعض الوثائق والمستندات اللازمة للقيام بعمليّة تحويل. لكنّها تظلّ مسألة شائكة ومعقّدة، خصوصاً أمام تنامي حجم الحوالات، وأمام تقدّم الجهّات الإرهابيّة في تطوير وسائل تمويلها. وهو ما جعل الجهّات المصرفيّة والحكوميّة المصريّة مثلاً، تعمد إلى إنشاء بطاقات مصرفيّة خاصّة بالحوالات الأجنبيّة، تعطى للمواطن ويستخدمها لمجرّد التحويل وقبض المال المحوّل، حيث تنخفض كلفة التحويل، ويصير مضبوطاً ومراقباً في الكامل.
وسيلة أخرى يتمّ الاعتماد عليها، هي محاولة جذب الأشخاص الذين لا يزالون خارج النظام المصرفيّ الرسميّ، عبر استثمارات مجدية لهم ومربحة لأموالهم المتروكة خارج النظام المرصود مصرفيّاً. مثلاً، يتابع المسؤول المصريّ، أنّ عمليّة الاكتتاب في قناة السويس الجديدة، جذبت نحو 27 مليار جنيه مصريّ (نحو 3.5 مليار دولار أميركيّ)، وقد كان قسم كبير من هذه الاكتتابات خارج النظام المصرفيّ.
أيّاً كانت وسائل الحماية والوقاية والمواجهة، سيظلّ من المؤكّد أنّ هناك سباقاً لا ينتهي بين الجريمة ومكافحتها. وهو سباق يصير أكثر صعوبة وضرورة حين يكون المال موضوعه.