كأنّ لعنة ما تلاحق ضبّاط المخابرات السوريّة الذين تولّوا مهام أمنيّة في لبنان، خلال فترة الوصاية السورية على بلاد الأرز، والتي استمرت بشكل كامل بين خريف العام 1990 وربيع العام 2005. فبعد عشرة أعوام على جلاء الجيش السوريّ عن لبنان في 26 نيسان 2005، وانسحاب هؤلاء الضبّاط من مراكزهم، يظهر أنّ سلسلة من الأحداث قد أصابتهم. فشطبوا واحداً تلو الآخر، وآخرهم رستم غزالة الذي اعلنت وفاته في دمشق يوم الجمعة في 24 نيسان 2015، بعد أسابيع على أخبار كانت قد تسربت حول تعرضه لحادث غامض أواخر شباط الماضي.
كانت أولى حلقات تلك السلسلة من "اللعنة اللبنانيّة" مع غازي كنعان. فالرجل الذي جاء إلى لبنان عام 1984، معيناً من قبل الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد، مسؤولاً عن "جهاز الأمن والاستطلاع في القوّات السوريّة العاملة في لبنان"، لم يلبث أن تحوّل بعد سيطرة الجيش السوريّ على كامل الأراضي اللبنانيّة في خريف عام 1990، الحاكم الفعليّ للجمهوريّة اللبنانيّة. فهو الذي كان يزكي اسم من ينتخب رئيساً للجمهورية اللبنانية، وهو من يفرض الوزراء والنواب وحتى موظفي الإدارة الرسمية. وظلّ الجنرال كنعان يتمتّع بنفوذه المطلق في لبنان، حتّى صدور قرار مفاجئ عن قيادته، بنقله من بيروت إلى دمشق مطلع تشرين الأوّل/أكتوبر 2002. يومها، ودّع المسؤولون اللبنانيّون كنعان وكأنّه رئيس دولة. فمنحه رئيس الجمهوريّة وساماً رفيعاً، من درجة خاصة لا تمنح إلا لرؤساء الدول. وسلّمه رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري مفتاح بيروت، عاصمة لبنان كريماً منه لضابط المخاربات السوريّة. وهي لفتة استثنائية تمنح عادة لرؤساء الدول عند تكريمهم من قبل مدن أجنبية يزورونها. بعد انتقاله إلى دمشق، تراجع نفوذ كنعان في لبنان، لصالح الضابط الذي خلفه، رستم غزالة. غير أنّ كنعان حافظ على بعض صداقاته وعلاقاته مع بعض السياسيّين اللبنانيّين، من الذين كان قد ساهم في وصولهم إلى مراكزهم أثناء وجوده في لبنان. لكن، بعد اغتيال رفيق الحريري في 14 شباط/فبراير 2005، وانسحاب الجيش السوريّ من لبنان في 26 نيسان/أبريل من العام نفسه، راحت الشائعات والاتّهامات السياسيّة والإعلاميّة تتناول كنعان لجهّة الاشتباه في تورّطه في الجريمة، إلى جانب غزالة وضبّاط سوريّين آخرين، بينهم جامع جامع، الذي كان ضابطاً سورياً برتبة عقيد ومسؤولاً عن فرع المخابرات السورية في نطاق العاصمة اللبنانية بيروت، حيث وقع اغتيال الحريري. حتّى أنّ لجنة التحقيق الدوليّة التي شكّلها مجلس الأمن لمتابعة القضيّة، قامت بالاستماع إلى شهادة هؤلاء في دمشق، في 20 أيلول 2005 . لكن فجأة، وسط الاهتمام الإعلاميّ بتلك القضيّة والتركيز عليها، مقابل الصمت السوريّ الكامل حيالها، خرج كنعان عن صمته من قلب العاصمة السوريّة، صباح 12 تشرين الأوّل/أكتوبر 2005، ليجري مقابلة عبر الهاتف، مع إحدى الإذاعات اللبنانيّة، واسمها إذاعة "صوت لبنان". وإذ نفى كنعان كلّ الاتّهامات المساقة ضدّه في قضيّة الحريري، ألمح إلى محاورته، إلى أنّها قد تكون المرّة الأخيرة التي يتكلّم فيها عن الموضوع. بعد ساعات، أعلن في دمشق خبر انتحار كنعان في مكتبه، بإطلاقه النار من مسدّسه في رأسه!