بعد أشهر قليلة على اندلاع الحرب السورية انطلق الحديث عن تقسيم سوريا. وسط تحليلات كثيرة وقراءات تارخية عديدة، حاولت إعادة كتابة أحداث قرن كامل من تاريخ المشرق. قيل في حينه أن الغرب هو من خلق قبل مئة سنة، حالة الدول المستقلة التي نعرفها اليوم في هذه المنطقة. وأنه فعل ذلك في خضم الحرب العالمية الأولى وما بعدها. وقيل ايضاً ان الغرب نفسه هو من قرر اليوم بعد قرن كامل على ذلك الحدث، السير بالمنطقة في شكل معكوس: فبين عامي 1915 و 1916 كان الاتجاه هو الخروج من كنف السلطنة العثمانية المعادية للغرب والمناوئة لمصالحه في أرضها، إلى حالة الكيانات الدولتية الحديثة. أما بين العام 2013 وما يليه، فالاتجاه بات العودة من تلك "الدول الفاشلة" إلى ما يشبه هيمنة نيو – عثمانية تركية، حليفة للغرب نفسه وضامنة لمصالحه في المنطقة. لكن رغم كل الكلام الذي فاض حول هذه المماثلة، ظل واضحاً أن أي موقف رسمي أو اي خطوة عملية لم تذهب نحو ترجمة هذا التوجه التقسيمي. لكن في الأسبوعين الماضيين تبدل المشهد جزئياً، ورصد المراقبون سلسلة مؤشرات قد تدل على أن المسار التفكيكي لسوريا راهناً، وربما لمحيطها لاحقا،ً قد بدأ فعلياً.
المؤشر الأول تمثل في سيطرة المعارضة السورية المسلحة على مناطق معينة من جغرافيا الدولة السورية. ومن ثم مع قيام "حكومة موقتة" لدى تلك المعارضة، تقول أن مهمتها إدارة تلك المناطق. ولم تلبث إشارات التقسيم أن تلت تلك الخطوة: تمثيل سوريا في المحافل الدولية بات ملتبساً، مقعدها في جامعة الدول العربية أعطي للمعارضة. حتى أن البعض بدأ يبحث في مسائل جوازات السفر المنفصلة والإدارة الكاملة في شكل مستقل. طبعاً، لم يعلن اي من المسؤولين المعارضين أو الموالين أن تلك الخطوات هي تقسيمية. بل على العكس. إذ يجمع قادة الفصائل المعارضة على أن ما يقومون به هو من أجل سوريا الموحدة لا غير. علماً أن هذا النوع من الخطابات التبريرية هو نفسه ما رافق عبر التاريخ كل الخطوات التقسيمية أو الانفصالية أو التفكيكية للدول التي عانت أزمات أو حروباً داخلية. الخطاب الوحدوي نفسه كان في اليمن أيام انقسامه، وهو كان طاغياً في السودان حتى انشطاره دولتين. وهو سيطر على ألسنة كل أمراء الحرب اللبنانيين طيلة 15 عاماً من تقاسمهم جغرافيا بلادهم ودويلاتها. والتسويغ الوحدوي نفسه موجود في كل أدبيات الحروب التقسيمية عبر التاريخ، من كوريا وفييتنام والصين وفورموزا، وصولاً إلى ألمانيا وكل حالة أمر واقع، تكون مطلوبة ضمناً ومحرمة علناً.